جوابا عن سؤالك أقول :
1ـ هل ثبت أصلا أن معاوية كان كاتبا للوحي؟ الظاهر أن هذه إحدى كبريات الأكاذيب في تاريخنا والتي خالت على معظم الناس بفعل التكرار وإرسالها إرسال المسلَّمات، وكما قيل بحق: إكذب وإكذب وإكذب، وفي النهاية سيصدقك الناس، فليس بين أيدينا البتة نص صحيح صريح أن معاوية كتب الوحي لرسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بل كل ما لدينا أنه كان كاتبا للرسول، ومن المعلوم أن كاتبيه عليه الصلاة والسلام كانوا أنواعا شتى وطبقات، فمنهم كتاب الوحي، ومنهم كتابه إلى الملوك والأمراء، وكتاب معاملاته ومداياناته، وكتاب إلى أمرائه وسراياه وبعوثه، وأخرون كتبوا معاهداته وصلحه، وكتاب للصدقات وخرص النخل، إلى غير ذلك ....
فمن أي هؤلاء كان معاوية؟
ورد في سير أعلام النبلاء للذهبي: ونقل المفضل الغلابي عن أبي الحسن الكوفي قال: كان زيد بن ثابت كاتب الوحي، وكان معاوية كاتبا فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب.
وورد في الإصابة للحافظ إبن حجر : قال المدائني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله) فيما بينه وبين العرب.
و لم يُصَرَح بكتابته للوحي إلا في حديث لأبي عوانة وهو غلط كما سأبينه تفصيلا بعون الله في المحاضرة.
و لو إستظهر الزاعمون كتابةَ معاوية للوحي بالثقلين ليثبتوا أن معاوية كتب آية واحدة ـ لا سورة كاملة ـ لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما إستطاعوا ولا قدروا.
2ـ ثم إن رسول الله عليه السلام وأله لم يختر معاوية ليكتب له إبتداء حتى يقال: ما إختاره عليه السلام إلا لما علم من فضله وخيره، بل وافق عليه السلام على إلحاقه بكاتبيه تلبية لطلب أبيه أبي سفيان بن حرب وتألفا له، كما ورد في صحيح مسلم عن إبن عباس : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه (أي بعد إسلامه)، فقال للنبي صلى الله عليه وآله و سلم : يا نبي الله ثلاث أعطنيهن، قال : نعم ...قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال عليه السلام : نعم ... وقال أبو زميل : و لولا أنه طلب ذلك من النبي عليه السلام ما أعطاه ذلك، لأنه عليه السلام لم يكن يُسأل شيئا إلا قال : نعم.
3ـ ومن المعلوم أن الذين كانوا يتقنون الكتابة والقراءة في زمن الرسول كانوا قلة وندرة، فكانت تمَسُّ الحاجة إلى توظيف من يتقن ذلك لا لميزة خاصة فيه، فلو كان الذين يحسنون الكتابة والقراءة كثيرين واختار الرسول من بينهم أناسا بأعيانهم لصح أن يقال: إنه ما آختارهم ولا آثرهم على غيرهم إلا لفضل إختصوا به.
4ـ ثم إن كاتبيه عليه الصلاة والسلام غير واحد أو إثنين أو ثلاثة، فقد عدّهم بعض العلماء ثلاثة عشر، بينما بلغ بعدتهم آخرون ثمانية وأربعين كاتبا على إختلاف تخصصاتهم. وفي رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة رضوان الله عليهم، وأبي بن كعب، والزبير بن العوام وخالد بن سعيد بن العاص وقيل: هو أول من كتب للنبي، وزيد بن ثابت الذي قال غير واحد : أنه ألزمهم لهذا الشأن وآخصهم به.
ومن المعلوم أن القرآن محفوظ أصلا في الصدور قبل أن يحفظ في السطور ولذا كان أشهر أسمائه القرأن يتلوه الكتاب، إشارة إلى محفوظيته في الصدور والسطور، فما كان بوسع كاتب كائنا من كان أن يحرف حرفا مما يكتب، لأن ذلك لن يجديه شيئا، والله تعالى قد أمننا أن يضيع شيئ أو يتحرف من كتابه العزيز (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وسيأتي أن بعض كتاب الوحي قد إرتدوا فما ضرّ ذلك القران شيئا.
5ـ ولعل أهم ما ينبغي فهمه وتقريره هو أن الكتابة للرسول حتى لو كانت كتابة للقران العظيم لا تعني العصمة لصاحبها ولا المحفوظية بدليل أن هناك من كان كاتبا للوحي ثم كفر وارتد وسخر من رسول الله عليه الصلاة والسلام وآله، قال الحافظ العراقي في ألفية السيرة:
وذكروا ثلاثة قد كتبوا وارتدّ كل منهم و انقلبوا
إبن أبي سرح مع إبن خطلِ وأخر مبهم لم يسم لي
ولم يعد منهم إلى الدين سوى إبن أبي سرح وباقيهم غوى
وهذا الذي أُبهم، ذكر قصته البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال ملا علي القاري في المرقاة والهرري في الكوكب الوهاج : أي الوحي)، فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم ( أي مات ) فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا. وهذا لفظ مسلم، واخرجه إبن حبان وفيه أن النبي أخبرهم أن الأرض لن تقبله.
6ـ ثم ما هذا الكاتب البار الفاضل (أعني معاوية) الذي يرسل إليه النبي مرتين في حاجة له ـ يظهر من سياق الحديث تعلقها بالكتابة ـ فلا يجيبه ويتعلل بأنه يأكل، حتى دعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام: لا أشبع الله بطنه، فما شبع بعدها وكان يأكل في اليوم سبع مرات ويقول: لا أشبع ولكن أعيا، أي أتعب، كما ذكر ذلك الحافظ إبن كثير في تاريخه، والحديث صحيح أخرجه مسلم وغيره، وقد فصلتُ القول فيه في محاضرة يسّر الله انزالها على الشبكة قريبا. ومن المعلوم أن الرسول لو دعا أحدا من أصحابه وهو في صلاة للزمه أن يلبيه كما ورد في قصة أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري من روايته، وقصة أبي بن كعب عند الترمذي من رواية أبي هريرة.
7ـ وأخيرا نؤكّد ما قررته قواعد الشريعة المطهرة المعلومة لعموم المسلمين على إختلاف الأزمان ـ والمشيدة على أسس من أيات الكتاب الأجل وما تواتر معناه من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ من أن العبرة بالعمل الصالح مع النية الصادقة والقصد الخالص وما يموت عليه المرء فإنما الأعمال بالخواتيم، لا بالألقاب ولا بالأنساب ولا بالدعاوى، فمن أحب أن يقف على حقيقة أمر معاوية فلينظر في سيرته وأعماله ومأتياته وليزنها بميزان الشرع المطهر، بعيدا عن الشعريات والعواطف الساذجة التي يُشغب بها بقصد تغطية الحقائق الصارخة وطمس الأدلة الواضحة القاهرة.
اللهم أرنا الحق حقا وإرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وإرزقنا إجتنابه، وأحسن ختامنا، اللهم أمين، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.