باقى من الوقت

"كلمة منهجية ( حول مخالفات المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم )"

"كلمة منهجية ( حول مخالفات المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم )"


 أثارت أطروحات المفكر الإسلامي الغزِّي النُّصيْراتي الدكتور عدنان إبراهيم حول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وإنكار نزول عيسى عليه السلام، وإنكار خروج الدجال والمهدي، والقول بفناء النار، فضلاً عن طعنه في أحاديث وردت في الصحيحين، كل هذا أثار حملة كبيرة من السخط والردود بين أوساط العلماء وطلاب العلم، وهذه مسألة طبيعية لأن الرجل خرج في أفكاره عن المألوف، وخالف جماهير الأمة قديمها وحديثها.

وأنا في هذا المقال لست بصدد الرد على الدكتور عدنان ومناقشة أفكاره الجديدة، لأني لست أهلاً لكي أرد عليه، ورحم الله إمرءً عرف قدر نفسه، وإنما أريد هنا أن أذكر المنهجية العلمية والتعامل مع أطروحاته التي خالف فيها جماهير الأمة، مع العلم أنني أكاد أزعم أنني من أكثر الناس علماً بشخصية الرجل وطريقة تفكيره، فهو إبن معسكرنا ونشأ في مسجدنا، مسجد عز الدين القسام.

وقد بَدت عليه مخايل الذكاء والنبوغ المفرط منذ الصغر، فكان مولعاً بالقراءة، حتى أنه قرأ في المرحلة الإبتدائية ما كتب البنا وسيد قطب ومحمد قطب والغزالي، كما أنه كان مولعاً بقراءة الفلسفة بالرغم من حداثة سنه، وقد ساهمت الفلسفة بتشكيل عقليته والإنعتاق من أسر التقليد والإتجاه بصورة أكبر إلى المنهجية والتحليل، وقد بدا أثر الفلسفة على أفكاره الأخيرة بصورة واضحة. إضافة إلى ما سبق، حباه الله تعالى موهبة الرسم، والصوت الندي على كل حال أستطيع أن أصف الرجل بدون مبالغة بأنه صاحب عقل موسوعي، وذاكرة حادة، له من كل علم نصيب كبير، وربما لدرجة التخصص المتعمق، فهو رجل بحق فوق العادة، لذا وصفه الدكتور طارق سويدان : بأنه قد سبق زمانه.

وقد سجل مثل هذه الشهادة بعض العلماء الذين عرفوه مثل العلاَّمة البوطي، والمفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري. ولا أذهب بعيداً إذا قلت إن الجدل الذي أحدثته أطروحات عدنان إبراهيم وردود بعض العلماء عليه، واستعداد آخرين لمحاورته – وآخرهم العلامة المحدث حاتم الشريف العوني - لهو أكبر دليل على قَدم الرجل الراسخة في العلم.

وهنا يقتضي التنويه أنني عندما أصف الرجل بهذا الوصف لا أبالغ، بقدر ما ألتزم بذلك بالمنهج العلمي القرآني، الذي يقوم على إنصاف المخالف، والحديث عن هذا المنهج – المفقود – يطول. وهناك بعض طلاب العلم، من الذين يفتقرون لهذا المنهج، لا يميز بين أن يُمدح المخالف فيما يستحق المدح، وبين أن تحاكم أفكاره وفق المنهج العلمي، فالأصل أن نفرق بين محاكمة الشخص ومحاكمة الفكرة. كما أن قواعد النقد العلمي تقتضي أن يُذكر للرجل ما له وما عليه ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾.

كما أنه ليس هناك تلازم بين أن يُوصفَ الرجلُ بهذا الوصف، وأن يكون صائباً في كل ما يقول وأنا أكتب هذا المقال خطر في بالي أنني سأتعرض لحملة تشويه من الذين يجهلون قواعد النقد العلمي، وَسأُتهمُ بأني أدافع عن الرجل وأتبنى أفكاره، مع العلم أن الدفاع عن الدكتور عدنان وفق المنهج العلمي يُشرفني، ولا يعَيبُني، وأنا الذي أخبره أكثر من غيري.

وبهذه المناسبة عندما عاب بعض النقاد على البخاري – رحمه الله – روايته عن بعض شيوخه الضعفاء اعتُذر له بأنهم شيوخه وهو أخبر بهم من غيره وفي هذه المقالة سأقدم رأيي في كيفية التعامل مع مخالفات الدكتور عدنان في جملة من النقاط :

1- مما لا شك فيه أن أطروحات الدكتور عدنان إبراهيم الأخيرة فيها كثير من المخالفات لجماهير الأمة الإسلامية، لذا من الطبيعي أن تكون ردة الفعل على هذه المخالفات كبيرة، وقاسية في بعض الأحايين، حتى ذهب بعض المتسرعين والمندفعين والمغالين إلى حد تكفير الرجل، وهذا هو الثمن الطبيعي الذي سيدفعه كل من يخرج عن المألوف – وقد قيل : الناس أعداء ما يجهلون -. وَيُذَكِّرُني هذا بما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، عندما أعلن فتاويه في مسائل الطلاق، حيث خالف فيها جماهير الأمة بما في ذلك الأئمة الأربعة دفع ثمناً غالياً كلفه أن يعيش في السجن حتى مات، واليوم أصبحت أراء شيخ الإسلام التي هُجرت بالأمس هي التي يُفتي بها أكثرُ العلماء.

2- كنت أتمنى لو أن الدكتور عدنان ما أقدم على تفجير هذه القنابل عبر خطب الجمعة وعلى مواقع الشبكة العنكبوتية، ولو أنها دُونت في الكتب، لتصدى لها العلماء بهدوء، لكن للأسف الشديد، عملت هذه الأفكار على تشويش عقول العامة. كما كنت أتمنى على الرجل لو أنه عالج تلك المواضيع بلغة أكثر تسامحاً وهدوءاً، لكان ذلك أقبل للسامعين، لكن الرجل مع قوة لغته العلمية، كان كثيراً ما يخلط هذه اللغة بحدة في اللسان، وكأنه يتقمص شخصية ابن حزم، في هجومه على خصومة لدرجة الإزدراء بهم أحياناً، وقد نقلت له ذلك شخصياً.

3- إذا كان الرَدُّ على الدكتور عدنان أمراً واجباً، فينبغي أن يتصدى لهذه المهمة من هم أهلٌ لذلك، لأن العالم لا يرد عليه إلا العالم، أما أنصاف العلماء وطلاب العلم المبتدئين والذين يَهرفون بما لا يَعرفون ممن لا يُحسنون إلا فن التشغيب والسب والشتم، فعليهم أن يلتزموا الصمت، وألا يُقحموا أنفسهم في هذه المعركة العلمية.

وهنا أُنوه أن الرد العلمي يقتضي الإستماع لكلام الرجل كاملاً في الموضوع الواحد، فلا ينبغي مثلاً أن نحكم على الرجل فيما قاله في معاوية رضي الله عنه من خلال الإستماع لمحاضرة واحدة، مع العلم أن الرجل عالج موضوع معاوية رضي الله عنه في سبع وعشرين محاضرة، كما ينبغي قبل سماع ما قاله في معاوية رضي الله عنه الإستماع إلى تسع محاضرات له في ( عدالة الصحابة ) لأن ما قاله في معاوية بناه على فهمه لموضوع العدالة - وهو أخطر ما قال الرجل - حيث يحتاج إلى نقاش مُعمق، لأنه هدم ونسف مفاهيم تواترت عند العلماء.

كما أن الأمانة العلمية تحتم على من يريد أن يحاوره أو يرد عليه أن يعترف بالمواضع التي أصاب بها، وكان الدليل معه، كما يحتم أن يبين المواطن التي أخطأ فيها. ويعجبني هنا الدكتور المفكر الإسلامي سلمان العودة، عندما سئل عن الرجل، قال : سمعت به، لكن لم أكون فكرة عنه حتى أحكم عليه.

4- من خلال إستماعي لأكثر مخالفات الرجل العلمية، وجدت أنه مسبوق في كل ما قال، وإن كان الذين سبقوه قلة من العلماء الكبار، لم يشتهروا بهذه الآراء، إلا أن هذا ربما من شأنه أن يخفف من حدة الهجوم عليه، كما من شأنه أن يدفع لدراسة المسائل التي خالف فيها بصورة أكثر عمقاً وعلمية.

5- واضح أن الرجل يقحم العقل كثيراً في محاكمة النصوص، مما دعاه في بعض الأحيان أن ينكر أحاديث وردت في الصحيحين، وعدم الإلتفات إلى السند والإنشغال بمحاكمة المتن، وكثيراً ما كان يحاكم نصوص السنة النبوية بناءً على فهمه للقرآن الكريم، وهذا المنهج سلكه بعض المتقدمين، وفريق من المتأخرين، مثل : السيدة عائشة رضي الله عنها، والتي خالفت بعض الصحابة، وردت بعض الأحاديث بسبب تبنيها لهذا المنهج، ومن المتأخرين الشيخ محمد عبده، وتلميذه المجدد محمد رشيد رضا، والشيخ محمد الغزالي، وآخرين. وعلى كل حال منهج محاكمة العقل للنص فيه كثير من المخاطر والمجازفة، التي تؤدي إلى إنكار بعض نصوص السنة الصحيحة.

6- لا يشك عاقل، أنه وبالرغم من مخالفات عدنان إبراهيم، إلا أنه يُصنف في هذا الإطار بأنه متأول ومجتهد في مسائل غاية ما تُوصف بأنها من فروع العقيدة، وفَرقٌ بين إنسان يتكلم في هذه المسائل بالتشهي والهوى، وآخر صاحب نظر علمي يجتهد في فهم النصوص، وربما يُصيب أويُخطئ، فالأول غير معذور والآخر معذور.

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( منهاج السنة 3/20) أن منهج السلف كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم أنهم كانوا لا يُأثِّمون مجتهداً أخطأ في المسائل الأصولية والفرعية. وقال : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية.

ويقول في موضع آخر من الكتاب (3/60) : " إن المتأول الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يكفر ولا يُفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان " .

7- إن منهج أهل السنة والجماعة في نقد المخالفين يراعي وزن المخالف بحسناته وسيئاته معاً، والعبرة بكثرة الصواب، ومن كان فضله أكثر من نَقْصُه وُهِبَ نَقْصُه لفضله.

يقول الإمام الذهبي مقرراً هذه القاعدة : " إن الكبير إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له، ولا نُضلله ولا نطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك " [ سير أعلام النبلاء 5/269-283] .

لذا وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية يُثني على أبي بكر الباقلاني ويُعَدِّد محاسنه بالرغم من قوله بأن القرآن مخلوق، وهي بدعة حكم بعض العلماء على صاحبها بالكفر.[ درء تعارض العقل والنقل 2/92-100] وهذا العلاَّمة جمال الدين القاسمي يَرُدُّ على الشيخ محمد بن عقيل، الذي ألف كتاباً رأى فيه لعن معاوية- رضي الله عنه - أخف ضرراً من الترضي عليه، لكن الشيخ مع جلالة قدره، وعظيم علمه لم يخرجه من الملة، ولا ناصبه العداء، بل عدَّه من أكابر المجتهدين وأثنى عليه بالغ الثناء، وإن خالفه في أيه وألف في نقض كتابه. 

والأمثلة في هذا الباب أكثر من أتحصى.

عن المدون

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

أرشيف المدونة