باقى من الوقت

الدقائق الثلاثة الأولى من عمر الكون

الدقائق الثلاثة الأولى من عمر الكون

نبذة عن الكتاب:

لا شيء يمكن أن يستهوي النفس من مسألة كمسألة بداية الكون. يحاول المؤلف متابعة موضوع بداية الكون من خلال هذا الكتاب حيث يتحدث وبشيء من الطمأنينة كيف كان الكون في نهاية الثانية الأولى، أو أنها الدقيقة الأولى، أو في نهاية السنة الأولى.

يتحدث عن هذه القضايا من خلال براهين ولكن دون أن يدخل في متاهات الرياضيات والفيزياء ولكن بالطبع من خلال أفكار وبراهين علمية، بحيث لا تحتاج قراءة هذا الكتاب إلا إلى القليل من المعارف المسبقة عن الفيزياء والفلك، وقد حرص المؤلف على تعريف كل كلمة علمية في لحظة استعماله لها، وأضاف معجماً يضم تعاريف الكلمات الفلكية والفيزيائية.


"كلمة منهجية ( حول مخالفات المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم )"

"كلمة منهجية ( حول مخالفات المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم )"


 أثارت أطروحات المفكر الإسلامي الغزِّي النُّصيْراتي الدكتور عدنان إبراهيم حول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وإنكار نزول عيسى عليه السلام، وإنكار خروج الدجال والمهدي، والقول بفناء النار، فضلاً عن طعنه في أحاديث وردت في الصحيحين، كل هذا أثار حملة كبيرة من السخط والردود بين أوساط العلماء وطلاب العلم، وهذه مسألة طبيعية لأن الرجل خرج في أفكاره عن المألوف، وخالف جماهير الأمة قديمها وحديثها.

وأنا في هذا المقال لست بصدد الرد على الدكتور عدنان ومناقشة أفكاره الجديدة، لأني لست أهلاً لكي أرد عليه، ورحم الله إمرءً عرف قدر نفسه، وإنما أريد هنا أن أذكر المنهجية العلمية والتعامل مع أطروحاته التي خالف فيها جماهير الأمة، مع العلم أنني أكاد أزعم أنني من أكثر الناس علماً بشخصية الرجل وطريقة تفكيره، فهو إبن معسكرنا ونشأ في مسجدنا، مسجد عز الدين القسام.

وقد بَدت عليه مخايل الذكاء والنبوغ المفرط منذ الصغر، فكان مولعاً بالقراءة، حتى أنه قرأ في المرحلة الإبتدائية ما كتب البنا وسيد قطب ومحمد قطب والغزالي، كما أنه كان مولعاً بقراءة الفلسفة بالرغم من حداثة سنه، وقد ساهمت الفلسفة بتشكيل عقليته والإنعتاق من أسر التقليد والإتجاه بصورة أكبر إلى المنهجية والتحليل، وقد بدا أثر الفلسفة على أفكاره الأخيرة بصورة واضحة. إضافة إلى ما سبق، حباه الله تعالى موهبة الرسم، والصوت الندي على كل حال أستطيع أن أصف الرجل بدون مبالغة بأنه صاحب عقل موسوعي، وذاكرة حادة، له من كل علم نصيب كبير، وربما لدرجة التخصص المتعمق، فهو رجل بحق فوق العادة، لذا وصفه الدكتور طارق سويدان : بأنه قد سبق زمانه.

وقد سجل مثل هذه الشهادة بعض العلماء الذين عرفوه مثل العلاَّمة البوطي، والمفكر الإسلامي عبد الوهاب المسيري. ولا أذهب بعيداً إذا قلت إن الجدل الذي أحدثته أطروحات عدنان إبراهيم وردود بعض العلماء عليه، واستعداد آخرين لمحاورته – وآخرهم العلامة المحدث حاتم الشريف العوني - لهو أكبر دليل على قَدم الرجل الراسخة في العلم.

وهنا يقتضي التنويه أنني عندما أصف الرجل بهذا الوصف لا أبالغ، بقدر ما ألتزم بذلك بالمنهج العلمي القرآني، الذي يقوم على إنصاف المخالف، والحديث عن هذا المنهج – المفقود – يطول. وهناك بعض طلاب العلم، من الذين يفتقرون لهذا المنهج، لا يميز بين أن يُمدح المخالف فيما يستحق المدح، وبين أن تحاكم أفكاره وفق المنهج العلمي، فالأصل أن نفرق بين محاكمة الشخص ومحاكمة الفكرة. كما أن قواعد النقد العلمي تقتضي أن يُذكر للرجل ما له وما عليه ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾.

كما أنه ليس هناك تلازم بين أن يُوصفَ الرجلُ بهذا الوصف، وأن يكون صائباً في كل ما يقول وأنا أكتب هذا المقال خطر في بالي أنني سأتعرض لحملة تشويه من الذين يجهلون قواعد النقد العلمي، وَسأُتهمُ بأني أدافع عن الرجل وأتبنى أفكاره، مع العلم أن الدفاع عن الدكتور عدنان وفق المنهج العلمي يُشرفني، ولا يعَيبُني، وأنا الذي أخبره أكثر من غيري.

وبهذه المناسبة عندما عاب بعض النقاد على البخاري – رحمه الله – روايته عن بعض شيوخه الضعفاء اعتُذر له بأنهم شيوخه وهو أخبر بهم من غيره وفي هذه المقالة سأقدم رأيي في كيفية التعامل مع مخالفات الدكتور عدنان في جملة من النقاط :

1- مما لا شك فيه أن أطروحات الدكتور عدنان إبراهيم الأخيرة فيها كثير من المخالفات لجماهير الأمة الإسلامية، لذا من الطبيعي أن تكون ردة الفعل على هذه المخالفات كبيرة، وقاسية في بعض الأحايين، حتى ذهب بعض المتسرعين والمندفعين والمغالين إلى حد تكفير الرجل، وهذا هو الثمن الطبيعي الذي سيدفعه كل من يخرج عن المألوف – وقد قيل : الناس أعداء ما يجهلون -. وَيُذَكِّرُني هذا بما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، عندما أعلن فتاويه في مسائل الطلاق، حيث خالف فيها جماهير الأمة بما في ذلك الأئمة الأربعة دفع ثمناً غالياً كلفه أن يعيش في السجن حتى مات، واليوم أصبحت أراء شيخ الإسلام التي هُجرت بالأمس هي التي يُفتي بها أكثرُ العلماء.

2- كنت أتمنى لو أن الدكتور عدنان ما أقدم على تفجير هذه القنابل عبر خطب الجمعة وعلى مواقع الشبكة العنكبوتية، ولو أنها دُونت في الكتب، لتصدى لها العلماء بهدوء، لكن للأسف الشديد، عملت هذه الأفكار على تشويش عقول العامة. كما كنت أتمنى على الرجل لو أنه عالج تلك المواضيع بلغة أكثر تسامحاً وهدوءاً، لكان ذلك أقبل للسامعين، لكن الرجل مع قوة لغته العلمية، كان كثيراً ما يخلط هذه اللغة بحدة في اللسان، وكأنه يتقمص شخصية ابن حزم، في هجومه على خصومة لدرجة الإزدراء بهم أحياناً، وقد نقلت له ذلك شخصياً.

3- إذا كان الرَدُّ على الدكتور عدنان أمراً واجباً، فينبغي أن يتصدى لهذه المهمة من هم أهلٌ لذلك، لأن العالم لا يرد عليه إلا العالم، أما أنصاف العلماء وطلاب العلم المبتدئين والذين يَهرفون بما لا يَعرفون ممن لا يُحسنون إلا فن التشغيب والسب والشتم، فعليهم أن يلتزموا الصمت، وألا يُقحموا أنفسهم في هذه المعركة العلمية.

وهنا أُنوه أن الرد العلمي يقتضي الإستماع لكلام الرجل كاملاً في الموضوع الواحد، فلا ينبغي مثلاً أن نحكم على الرجل فيما قاله في معاوية رضي الله عنه من خلال الإستماع لمحاضرة واحدة، مع العلم أن الرجل عالج موضوع معاوية رضي الله عنه في سبع وعشرين محاضرة، كما ينبغي قبل سماع ما قاله في معاوية رضي الله عنه الإستماع إلى تسع محاضرات له في ( عدالة الصحابة ) لأن ما قاله في معاوية بناه على فهمه لموضوع العدالة - وهو أخطر ما قال الرجل - حيث يحتاج إلى نقاش مُعمق، لأنه هدم ونسف مفاهيم تواترت عند العلماء.

كما أن الأمانة العلمية تحتم على من يريد أن يحاوره أو يرد عليه أن يعترف بالمواضع التي أصاب بها، وكان الدليل معه، كما يحتم أن يبين المواطن التي أخطأ فيها. ويعجبني هنا الدكتور المفكر الإسلامي سلمان العودة، عندما سئل عن الرجل، قال : سمعت به، لكن لم أكون فكرة عنه حتى أحكم عليه.

4- من خلال إستماعي لأكثر مخالفات الرجل العلمية، وجدت أنه مسبوق في كل ما قال، وإن كان الذين سبقوه قلة من العلماء الكبار، لم يشتهروا بهذه الآراء، إلا أن هذا ربما من شأنه أن يخفف من حدة الهجوم عليه، كما من شأنه أن يدفع لدراسة المسائل التي خالف فيها بصورة أكثر عمقاً وعلمية.

5- واضح أن الرجل يقحم العقل كثيراً في محاكمة النصوص، مما دعاه في بعض الأحيان أن ينكر أحاديث وردت في الصحيحين، وعدم الإلتفات إلى السند والإنشغال بمحاكمة المتن، وكثيراً ما كان يحاكم نصوص السنة النبوية بناءً على فهمه للقرآن الكريم، وهذا المنهج سلكه بعض المتقدمين، وفريق من المتأخرين، مثل : السيدة عائشة رضي الله عنها، والتي خالفت بعض الصحابة، وردت بعض الأحاديث بسبب تبنيها لهذا المنهج، ومن المتأخرين الشيخ محمد عبده، وتلميذه المجدد محمد رشيد رضا، والشيخ محمد الغزالي، وآخرين. وعلى كل حال منهج محاكمة العقل للنص فيه كثير من المخاطر والمجازفة، التي تؤدي إلى إنكار بعض نصوص السنة الصحيحة.

6- لا يشك عاقل، أنه وبالرغم من مخالفات عدنان إبراهيم، إلا أنه يُصنف في هذا الإطار بأنه متأول ومجتهد في مسائل غاية ما تُوصف بأنها من فروع العقيدة، وفَرقٌ بين إنسان يتكلم في هذه المسائل بالتشهي والهوى، وآخر صاحب نظر علمي يجتهد في فهم النصوص، وربما يُصيب أويُخطئ، فالأول غير معذور والآخر معذور.

وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ( منهاج السنة 3/20) أن منهج السلف كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم أنهم كانوا لا يُأثِّمون مجتهداً أخطأ في المسائل الأصولية والفرعية. وقال : هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية.

ويقول في موضع آخر من الكتاب (3/60) : " إن المتأول الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يكفر ولا يُفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان " .

7- إن منهج أهل السنة والجماعة في نقد المخالفين يراعي وزن المخالف بحسناته وسيئاته معاً، والعبرة بكثرة الصواب، ومن كان فضله أكثر من نَقْصُه وُهِبَ نَقْصُه لفضله.

يقول الإمام الذهبي مقرراً هذه القاعدة : " إن الكبير إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له، ولا نُضلله ولا نطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك " [ سير أعلام النبلاء 5/269-283] .

لذا وجدنا شيخ الإسلام ابن تيمية يُثني على أبي بكر الباقلاني ويُعَدِّد محاسنه بالرغم من قوله بأن القرآن مخلوق، وهي بدعة حكم بعض العلماء على صاحبها بالكفر.[ درء تعارض العقل والنقل 2/92-100] وهذا العلاَّمة جمال الدين القاسمي يَرُدُّ على الشيخ محمد بن عقيل، الذي ألف كتاباً رأى فيه لعن معاوية- رضي الله عنه - أخف ضرراً من الترضي عليه، لكن الشيخ مع جلالة قدره، وعظيم علمه لم يخرجه من الملة، ولا ناصبه العداء، بل عدَّه من أكابر المجتهدين وأثنى عليه بالغ الثناء، وإن خالفه في أيه وألف في نقض كتابه. 

والأمثلة في هذا الباب أكثر من أتحصى.

هل كتب معاوية الوحي؟

هل كتب معاوية الوحي؟

جوابا عن سؤالك أقول :

  هل ثبت أصلا أن معاوية كان كاتبا للوحي؟ الظاهر أن هذه إحدى كبريات الأكاذيب في تاريخنا والتي خالت على معظم الناس بفعل التكرار وإرسالها إرسال المسلَّمات، وكما قيل بحق: إكذب وإكذب وإكذب، وفي النهاية سيصدقك الناس، فليس بين أيدينا البتة نص صحيح صريح أن معاوية كتب الوحي لرسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بل كل ما لدينا أنه كان كاتبا للرسول، ومن المعلوم أن كاتبيه عليه الصلاة والسلام كانوا أنواعا شتى وطبقات، فمنهم كتاب الوحي، ومنهم كتابه إلى الملوك والأمراء، وكتاب معاملاته ومداياناته، وكتاب إلى أمرائه وسراياه وبعوثه، وأخرون كتبوا معاهداته وصلحه، وكتاب للصدقات وخرص النخل، إلى غير ذلك ....

فمن أي هؤلاء كان معاوية؟

ورد في سير أعلام النبلاء للذهبي: ونقل المفضل الغلابي عن أبي الحسن الكوفي قال: كان زيد بن ثابت كاتب الوحي، وكان معاوية كاتبا فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب.

وورد في الإصابة للحافظ إبن حجر : قال المدائني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله) فيما بينه وبين العرب.

و لم يُصَرَح بكتابته للوحي إلا في حديث لأبي عوانة وهو غلط كما سأبينه تفصيلا بعون الله في المحاضرة.

و لو إستظهر الزاعمون كتابةَ معاوية للوحي بالثقلين ليثبتوا أن معاوية كتب آية واحدة ـ لا سورة كاملة ـ لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما إستطاعوا ولا قدروا.

2ـ  ثم إن رسول الله عليه السلام وأله لم يختر معاوية ليكتب له إبتداء حتى يقال: ما إختاره عليه السلام إلا لما علم من فضله وخيره، بل وافق عليه السلام على إلحاقه بكاتبيه تلبية لطلب أبيه أبي سفيان بن حرب وتألفا له، كما ورد في صحيح مسلم عن إبن عباس : كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه (أي بعد إسلامه)، فقال للنبي صلى الله عليه وآله و سلم : يا نبي الله ثلاث أعطنيهن، قال : نعم ...قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال عليه السلام : نعم ... وقال أبو زميل : و لولا أنه طلب ذلك من النبي عليه السلام ما أعطاه ذلك، لأنه عليه السلام لم يكن يُسأل شيئا إلا قال : نعم.

3ـ  ومن المعلوم أن الذين كانوا يتقنون الكتابة والقراءة في زمن الرسول كانوا قلة وندرة، فكانت تمَسُّ الحاجة إلى توظيف من يتقن ذلك لا لميزة خاصة فيه، فلو كان الذين يحسنون الكتابة والقراءة كثيرين واختار الرسول من بينهم أناسا بأعيانهم لصح أن يقال: إنه ما آختارهم ولا آثرهم على غيرهم إلا لفضل إختصوا به.

4ـ  ثم إن كاتبيه عليه الصلاة والسلام غير واحد أو إثنين أو ثلاثة، فقد عدّهم بعض العلماء ثلاثة عشر، بينما بلغ بعدتهم آخرون ثمانية وأربعين كاتبا على إختلاف تخصصاتهم. وفي رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة رضوان الله عليهم، وأبي بن كعب، والزبير بن العوام وخالد بن سعيد بن العاص وقيل: هو أول من كتب للنبي، وزيد بن ثابت الذي قال غير واحد : أنه ألزمهم لهذا الشأن وآخصهم به.

ومن المعلوم أن القرآن محفوظ أصلا في الصدور قبل أن يحفظ في السطور ولذا كان أشهر أسمائه القرأن يتلوه الكتاب، إشارة إلى محفوظيته في الصدور والسطور، فما كان بوسع كاتب كائنا من كان أن يحرف حرفا مما يكتب، لأن ذلك لن يجديه شيئا، والله تعالى قد أمننا أن يضيع شيئ أو يتحرف من كتابه العزيز (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وسيأتي أن بعض كتاب الوحي قد إرتدوا فما ضرّ ذلك القران شيئا.

5ـ  ولعل أهم ما ينبغي فهمه وتقريره هو أن الكتابة للرسول حتى لو كانت كتابة للقران العظيم لا تعني العصمة لصاحبها ولا المحفوظية بدليل أن هناك من كان كاتبا للوحي ثم كفر وارتد وسخر من رسول الله عليه الصلاة والسلام وآله، قال الحافظ العراقي في ألفية السيرة:

وذكروا ثلاثة قد كتبوا وارتدّ كل منهم و انقلبوا

إبن أبي سرح مع إبن خطلِ وأخر مبهم لم يسم لي

ولم يعد منهم إلى الدين سوى إبن أبي سرح وباقيهم غوى

وهذا الذي أُبهم، ذكر قصته البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال ملا علي القاري في المرقاة والهرري في الكوكب الوهاج : أي الوحي)، فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم ( أي مات ) فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا. وهذا لفظ مسلم، واخرجه إبن حبان وفيه أن النبي أخبرهم أن الأرض لن تقبله.

6ـ  ثم ما هذا الكاتب البار الفاضل (أعني معاوية) الذي يرسل إليه النبي مرتين في حاجة له ـ يظهر من سياق الحديث تعلقها بالكتابة ـ فلا يجيبه ويتعلل بأنه يأكل، حتى دعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام: لا أشبع الله بطنه، فما شبع بعدها وكان يأكل في اليوم سبع مرات ويقول: لا أشبع ولكن أعيا، أي أتعب، كما ذكر ذلك الحافظ إبن كثير في تاريخه، والحديث صحيح أخرجه مسلم وغيره، وقد فصلتُ القول فيه في محاضرة يسّر الله انزالها على الشبكة قريبا. ومن المعلوم أن الرسول لو دعا أحدا من أصحابه وهو في صلاة للزمه أن يلبيه كما ورد في قصة أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري من روايته، وقصة أبي بن كعب عند الترمذي من رواية أبي هريرة.

7ـ  وأخيرا نؤكّد ما قررته قواعد الشريعة المطهرة المعلومة لعموم المسلمين على إختلاف الأزمان ـ والمشيدة على أسس من أيات الكتاب الأجل وما تواتر معناه من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ من أن العبرة بالعمل الصالح مع النية الصادقة والقصد الخالص وما يموت عليه المرء فإنما الأعمال بالخواتيم، لا بالألقاب ولا بالأنساب ولا بالدعاوى، فمن أحب أن يقف على حقيقة أمر معاوية فلينظر في سيرته وأعماله ومأتياته وليزنها بميزان الشرع المطهر، بعيدا عن الشعريات والعواطف الساذجة التي يُشغب بها بقصد تغطية الحقائق الصارخة وطمس الأدلة الواضحة القاهرة.

اللهم أرنا الحق حقا وإرزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وإرزقنا إجتنابه، وأحسن ختامنا، اللهم أمين، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

نكتة داهومية


نكتة داهومية

الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده، وعلى أله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين والسلام، وبعد

قد وقفت على النكتة التي أطلقها محمد الداهوم وهي دعوتي إلى مناظرة رجل في النمسا ـ حيث أقيم ـ يدعى أميرا حظي بتزكية الداهوم فزعم أنه من أحسن طلبة العلم بالنمسا، إمام و خطيب متخرج من الجامعة الإسلامية، وشهد الداهوم له بأنه أعلم منه، ثم قطع الداهوم على غيبي بأنني سأرفض مناظرة صاحبه، وتعليقا على ذي النكتة ـ وليست بأول نكتة وحتما لن تكون آخرها ـ أقول مستعينا بالله جلّ مجده :

ليس الداهوم ممن يصلح للشهادة لأحد أو تزكيته، الرجل الذي أراد أن يُعرف ويشتهر بسبي و شتمي وبهتي وثلبي فأعطاه الله ما يستحق لا ما يشتهي، فبان للناس ـ بعدما عرض عليهم عقله ومدى فهمه ـ أنه دخيل على العلم وأهله، فليس منهم في شيئ، لغة ونحوا وصرفا وبيانا وحفظا وفهما ودركا وتحقيقا، إن هي إلا الجسارة مراهنة على ما يرجوه من إغترار الأغمار وتهريج الجهال، ورضا منه بقول من لا يزيدون عليه كثيرا : الشيخ، ومن شكّ في كلامي هذا فليلق نظرة خاطفة على بعض ما بضّت به قريحة الداهوم كتابة أو إرتجالا ـ قد تأهب له طويلا ـ فسيقف حتما على مبلغه من العلم والفهم و الصدق والأدب .

لي حيلة فيمن ينم و ليس لي في الكذاب حيلة

من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة

2 ـ أما صاحبه أمير فسلوا عنه النمسا ومن فيها ـ من غير الموتورين المقموعين ممن سبوه بالأمس وهم اليوم مستعدون لرفعه زورا، حسدا وكبرا ـ سلوهم عنه هل عُرف يوما بعلم أو فضل وهل له عند أحد كبير قدر أو عظيم خطر؟

ثم ثنّوا فاستحلِفوا أميرا هذا ـ إن كان ممن يرجو لله وقارا، فقد بلونا عليه الكذب وبهت الناس ـ كم من مرة إستنجد فيها عدنانَ إبراهيم ـ مهاتفة وكتابة ـ في معضلات علمية عرضت له من طرف نمساويين إبتلي بإيراداتهم واستشكالاتهم فلم يجد منها مخرجا إلا أن يُهرع إليّ و يعول عليّ؟ وسلوه عن المرات التي صلى فيها الجمعة خلفي كلما قدم إلى فيينا إذ يسكن بعيدا منها، وما حدث مرة ـ وسلوا زهاء ألف من المصلين خلفي ـ أن تقدم أحد إليه عندنا بسؤال أو إستفتاء، فالرجل لا يُعرف بين الناس بعلم ولا فهم يرفعه كثيرا في نظر الناس فوق مرتبة العامة، أما أنه حيث يعيش أمّ وخطب فهذا قد سمعت به منه ـ و لكني ما أظن أنكم سمعتم بحرصه عبر السنين على شراء تسجيلات خطبي ومحاضراتي ليتحفظ ما فيها يستعين به في خطبه حيث يخطب، و كأين من خطيب وإمام مسجد في دنيا المسلمين اليوم لا يمتاز من بين الألوف من أمثاله، إذ كل يصلح أن ينوب عن كل، و ما أعظم جناية الألفاظ على الحقائق في أذهان العامة، فكل من تكلم في الدين و إرتقى منبرا سموه شيخا، مع أن الفرق بين شيخ و شيخ كالفرق بين صاروخ فضائي وصاروخ من ورق .

لما أثار الداهوم ومن معه قبل شهور قضية موقفي من معاوية، وشرعت بالرد على تخاليطهم وتخابيطهم، إتصل أمير هذا ـ عبر أخ فاضل من إخواني ـ يطلب مباحثتي فكان ردي : يا حيهلا أقبل يوم السبت إذ أعقد محاضراتي وسل عما أردت واعترض بما شئت ، فأعرب عن أنه يريد أن يجلس إلى جانبي يناظرني مناظرة الند للند ـ كما إتفق لحزب التحرير ـ ولو قد فعلت لقال الجهال من الناس : عدنان وأمير وأمير وعدنان، وما هذا والله الا من المهانة، ووالله ثم والله لو ناظرت الداهوم أو الخميس ثم حطمتهم تحطيما ما كان لي في هذا شيئ من فخار أو شرف لأني والعقلاء نعرف مبلغهم من العلم و الفهم فكيف لو ناظرت اميرا هذا؟ ـ فقلنا له : أربع على ظلعك وإعرف قدر نفسك فلست هناك وما هذا عشك فادرج، ثم قلنا له : ولكن دونك فاختر أوثق عالم لديك وأرسخه عندك ممن يعيشون في الدول العربية فليناظرني ـ وذلك أن كل من بالنمسا ممن يترسم برسم العلماء و يكتفي بالبهت والنكير من وراء وراء وإذا قيل : ها هو الرجل بين ظهرانيكم ماثل فناظروه كعوا جميعا ونكصوا، ومثلهم بعض من يتردد على النمسا بين الحين والآخر من مشاهير العلماء يستغاث به : أن ناظر عدنان ناظر عدنان، فقد أعيانا، فلا يجيب البتة، يتكررهذا منذ سنين، والكل يشهد عليه ـ فأجاب أمير : الشيخ عثمان الخميس، فقلنا : فحيهلا، لا شرط لنا إلا أن تكون المناظرة علنية في الخلاء لا في الملاء، مسجلة موثقة الوقائع لئلا يقول قائل ويزعم زاعم فاسع أنت يا أمير في الموضوع ونحن جاهزون، أما البقية فيعرفها الجميع، يأتي ردّ عثمان الخميس و أصحابه في كل مرة : لا ثم لا للمناظرة، ثم يزعمون أن عدنان نكرة يبغي الشهرة على أكتاف الخميس !!! أضحك الله سنكم، عدنان من سنين بعيدة شهد له الجهابذة بما يعلم القاصي والداني، ولو طمع الخميس وأمثاله بنيل عشر معيشير تلك الشهادات لطاروا بها فرحا، ثم إن حظ العالم من العلم إنما يعرف ويتبرهن بما يبديه إذا تكلم وإذا كتب وحاجج، ألا رحم الله إمرءا عرف قدر نفسه.

4 ـ أما وقد حصحص الحق وصرّح بفضل الله عن محضه وبان للأيقاظ الواعين أيّ الفريقين أقول بالحق وأقوم بالحجة، كما وضح مقدار كلٍ من الأدب والفهم والعلم والتحقيق، فإني أعلن ما يلي :

ـ لن أقبل من اليوم مناظرة أحد من هؤلاء ممن بضاعته السب والبهت والمغالطة والمكابرة، ثم هو عارٍ عن فهم الخطاب ودرك المراد، ولله در أبي الطيب :

ومن البلية عذل من لا يرعوي عن جهله وخطاب من لا يفهم

فالوقت أنفس ما يعنى بحفظه العاقل، وبين أيدينا من جسام المهام العلمية ما يشغلنا عن مهاترة الفارغين ومقارعة البطالين.

فيا داهوم لا تحلم أن تسمع مني بعد اليوم كلمة أرد بها عليك بإسمك لأرفع خسيستك، فقد فعلتُ ذا من قبل معتصما بحبوة الأدب رجاء أن تفهم فما زدت إلا خبالا، فعلمتُ أنك وأشباهك لستم أهلا للخطاب، فاجهد جهدك لا رعى الله عليك إن رعيت.

و قد علمتُ أن لو ناظرتُ أمثال هؤلاء من العاطلة الكاسدة فقُطعوا لقيل : ومن هؤلاء ؟ إنهم ليسوا حجة علينا ولا مرجعيات لنا، مجرد طلاب علم صغار ما شدوا من العلم إلا حروفا.

و عليه أقول : إن أتوا بعالم نبيل يعدونه من كبرائهم و ثقاتهم، بحيث يقرون أنه إذا إنقطع فقد قُطع بهم وإن إنخذل فقد خابوا وطاش سهمهم، فهيا ثم هيا.

و أخيرا أقول : أما أمير هذا ـ الذي تريدون تقريبه قربانا تنحرونه في مناظرة تعرفون سلفا قبله أنه ليس كفؤا لها وما غايتكم إلا ستر عوراتكم ومداراة فضيحتكم بالهرب الموصول من مناظرتي عبر زهاء ثلاثة أرباع العام ـ فأقبل مناظرته دونما تردد إن أتيتموني بتزكية من ثلاثة من كبار علمائكم الموثوقين لديكم بأنه ينوب عنكم و يمثلكم بحيث تقرون بأن إنقطاعه إذا إنقطع إنقطاع لكم وإنفحامه إذا إنفحم إنفحام لكم،لا أن تعودوا إلى ما عودتمونا من المكابرة والمباهتة فتقولوا : من أمير المسكين هذا؟ هلا ناظرت كبيرا من جلة علمائنا ! فأنا أقول لكم الساعة : وفّروا وقتي وأوقات الناس ـ أما أوقاتكم فبيّن أنها عندكم هدر ـ و أتوا بكبيركم الآن ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم، وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

اللهم أعطني بصرا لأبصر به الحقائق بين الزيوف، و هب لي شجاعة لأصدع بها بالحقيقة بين الكارهين لها، وامنحني صبرا يثبتني على مجاهدة نفسي ومصابرة سدنة الباطل وحراس الجهالة، اللهم آمين. 

معنى أن تكون عدنانيا

معنى أن تكون عدنانيا


أن تكون عدنانيا هو أن تقلد عدنان أو تبرر له كل ما يقول حتى قبل أن تستمع إليه أو تقرأ له، أن تعطيه شيكا على بياض، أن تتعاطى مع كلامه واجتهاده على أنه مذهب يتبع ولا يناقش.

 بالضبط هذا ما يشكل نقيض ما ترمي إليه جهود عدنان وإسهاماته، الإسهامات التي تجد نفسها في الإنحياز إلى الحق عبر النقد الصارم والمحاكمة الدقيقة، إنه منهج لا مذهب، وكل من يصر على معاملته وتلقيه والتفاعل معه كمذهب إنما يعمل في الإتجاه المضاد تماما. 

رام نفعا فضر من غير قصد و من البر ما يكون عقوقا

ربما يفرح بعض الناس إذا نُسب الناس إليه بمعنى ما من معاني الإنتساب المذهبية أو الحزبية أو القبلية، بالنسبة إليّ ـ حقا و صدقا ـ أجد هذا منفرا يبعث على الغثيان، و هو في نظري من أعظم أسباب تخلفنا وإنغلاقيتنا، حقير جدا أن يطمح أمرؤ ما إلى أو يطمع في أن يكيّف الحق مع شخصه أو يعيد صياغته على قد هواه ومداه، هنا يكمن تقزيم الحق و مسخه، حيث ـ بالمقابل ـ تكمن عظمة الشخصية ونبلها في أن تلاحق الحق وتتكيف معه وتتشكل به مهما كلفها هذا من مغارم معنوية ومادية ( و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ...) ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم).

أن تنظروا إلى عدنان على أنه طالب حق يسعى إليه، يرغَبُ فيه ويُرّغبُ فيه، إحترام وتقدير لعدنان، أما أن تصوروا عدنان على أنه منبع الحق ووكيله الحصري فهذا بمثابة القول : إحذروا الدجال!!

متى يأتي الزمان الذي نعرف كيف نفرق فيه بين الزعيم والصنم و بين العالم والوثن، فنتخلص مرةً وإلى الأبد من كلتا الوثنيتين : السياسية والروحية.

هل صوت المرأة عورة؟

هل صوت المرأة عورة؟


ليس هناك دليل على الإطلاق على أن صوت المرأة عورة، وقوله تعالى "ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي فى قلبه مرض" فيها تفسيران قويان جداً، هذه الآية لا تقول إن صوت المرأة عورة ولا أنه يحرم عليها أن تتكلم، ولا أنها يجب عليها أن تضع فى فمها حصاة صغيرة حتى يتغير صوتها.

 لم يقل الله هذا، وإنما تقول "ولا تخضعن بالقول" فالمسألة هنا متعلقة بما يقال وليس حتى بالصوت، فقد تكون جملة تغري الرجل وتفهمه أن الباب مفتوح لإغوائه مثلاً.

هذا هو الممنوع، لكن أن تتكلم كما تتكلم فى الحالة العادية وتعرف ماذا تتكلم فهذا ليس فيها شيء.

هل كون الصحبة لا توجب الجنة ينفي مفهوم العدالة؟

هل كون الصحبة لا توجب الجنة ينفي مفهوم العدالة؟


س: ذكرت أن الصحبة لا توجب الجنة في حد ذاتها فمن الصحابة كركرة الذي غل من الغنائم وظنه الصحابة شهيدا ومنهم من مات منتحرا وذكرت أحاديث مثل عثمان بن مظعون عندما قالت الصحابية بعد موته هنيئا له الجنة فقال النبي و ما يدريك (وأنا أتفق مع حضرتك تماما في ذلك ولكننا نناقش عدالتهم أي قبولهم كشهود ورواة ولا علاقة لذلك بمصيرهم في الآخرة فليس من شروط العدالة أن يكون الشخص من أهل الجنة.

ج: وأقول : كان ينبغي أن نقف طويلا عند تحرير مصطلح العدالة، لنرى هل يطلق هذا المصطلح بإزاء معنيين، يختص أحدهما بالصحابة والاخر بغيرهم أم أنه يطلق إطلاقا واحدا بدون تفريق وتمييز بين صاحب وغير صاحب؟

المشهور في حد العدالة أنها مَلَكَة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، قال الحافظ في شرح النخبة : والمراد بالتقوى إجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة، ولم يميزوا فيه بين صاحب وغير صاحب، فان كان كذلك فقد سجّل القران العظيم على الوليد بن عقبة بالفسق باتفاق المفسرين في أية الحجرات، وثبت فسقه بشرب الخمر في ولايته على الكوفة لعثمان رضي الله عنه، وأقيم عليه الحد بسبب ذلك، وما أتاه بسر بن ارطأة من العظائم والموبقات لا يخفى و كذا معاوية، وغيرهم وهم قلة، ولم ينفصل علماؤنا من هذه الإيرادات إلا بخرم قاعدة العدالة بادعاء أن من ثبتت صحبته لم يؤثر الطعن فيه ـ كما قال الحافظ في مروان بن الحكم ـ وقد علق عليه المقبلي في العَلَم الشامخ بالقول : كأن الصحبة نبوة أو أن الصحابي معصوم وهو تقليد في التحقيق بعد أن صارت عدالة الصحابة مسلما بها عند الجمهور، والحق أن المراد بذلك الغلبة فقط، فإن الثناء من الله تعالى ورسوله وهو الدليل على عدالتهم لم يتناول الأفراد بالنصوصية إنما غايته عموم، مع أن دليل شمول الصحبة لمطلق الرائي ونحوه ركيك جدا، ثم قال : فمنهم من علمنا عدالتهم ضرورة وهو الكثير الطيب ولذا قلنا إنها غالبية فيهم بحيث يسوغ ترك البحث في أحوالهم، ومن الصحابة نوادر ظهر منهم ما يخرج عن العدالة فيجب إخراجه كالشارب من العدالة لا من الصحبة ومنهم من أسلم خوف السيف كالطلقاء و غيرهم.

فمن ظهر حسن حاله فذاك وإلا بقي أمره في حيز المجهول وهم في حيز الندور، ومع هذا فالعدالة غير العصمة وقد غلا الناس فيمن ثبتت صحبته في التعنت في إثبات العدالة ... فلو نفعت الصحبة نحو بشر بن مروان( قال عدنان هذا سبقُ قلم أو تطبيعٌ لا محالة فأين بشر من عهد الرسول وإنما هو أبوه مروان بن الحكم وفي صحبته إختلاف) أو الوليد لتبين لنا أن الصحبة لا يضر معها عمل غير الكفر فتكون الصحبة أعظم من الإيمان ويكون هذا أخص من مذهب مقاتل وأتباعه من المرجئة ( يعني لأن الإيمان يتأثر زيادة ونقصا بالاعمال , فيزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية كما هو مذهب الجمهور, اما الصحبة فلا يؤثر فيها شيئ غير الكفر ) ثم أين أحاديث ( لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) وهي متواترة المعنى ... ألم يقل الله تعالى (إن جاءكم فاسق بنبأ) في رجل متيقن صحبته؟ولم تزل حاله مكشوفة مع الصحبة ... إلى أن قال: والنقم بذلك لا يعود على جملة الصحابة بالنقص بل هو تزكية لهم فإياك والإغترار( قال عدنان ولعل وجه كون ذلك تزكية لهم أننا بتمييزنا مَنْ أَحسَنَ السيرة من الصحابة ممن أساءها نحفظ للمحسنين منهم مزيتهم ونُوفّر حشمتهم، أما لو لم نفعل وثبت لأحد إنحراف أحدهم ـ كبسر الذي قال فيه الإمام أبو الحسن الدارقطني : بسر بن أرطاة أبو عبد الرحمن له صحبة ولم تكن له إستقامة بعد النبي صلى الله عليه و سلم، وكالوليد بن عقبة ومعاوية ـ لطُرّقَ بذلك طريقٌ إلى الشك في المحسنين منهم و حاشاهم.

فالمقصود أن المجروح منهم نادر ومنهم من لم يقع الإتفاق أصلا على صحبته كبسر هذا و مروان بن الحكم، و أما معاوية وهو المقصود بالبحث فلم يتفرد برواية شيئ تحق الحاجة إليه، بل عامة ما يرويه شاركه فيه غيره كما بين ذلك الإمام إبن الوزير رحمه الله في عواصمه، وسأخصص هذا الموضوع بالبحث المفصل في حينه إن شاء الله تعالى.

و ثمت طريقة أخرى مبنية على تعريف أخر للعدالة إرتضاه الصنعاني بعد رده للتعريف المذكور أعلاه عن الحافظ ذاكرا أنه ليس تعريفها في اللغة ولا أتى عن الشارع حرف واحد بما يفيدها، و من رأيه أنه تعريف متشدد في العدالة لا يتم إلا في حق المعصومين، وأن حصول هذه الملكة في كل راو من رواة الحديث عزيز الحصول لا يكاد يقع، ومن طالع تراجم الرواة علم ذلك وأنه ليس العدل إلا من قارب وسدد وغلب خيره شره، وهو من إطمأن القلب إلى خبره وسكنت النفس إلى ما رواه، ثم قال : وهذا بحث لغوي لا يُقَلّدُ فيه أهل الأصول وإن تطابقوا عليه فهو مما يقوله الأول ثم يتابعه عليه الآخر من غير نظر.

لقاء مع الشيخ عدنان إبراهيم

 لقاء مع الشيخ عدنان إبراهيم


قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه مع الله: "إن الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية العالية..أن يكون عارفا للكتاب والسنة وجامعاّ لعلوم الدنيا والفقه الإسلامي وحضارات الشعوب وعلوم اللغة. ملما بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية القديمة منها والمعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات .

وهنا منَّ الله على الجالية الإسلامية برجل رزقه الله فكرًا عميقًا، وثقافة إسلامية و علمية واسعة، ومعرفة رحيبة بالإسلام، فأثمر ذلك عن تجمع الكثيرين حوله .

والشيخ عدنان إبراهيم وهبه الله فصاحة وبيانًا، يجذب من يجلس إليه، ويأخذ حديثه بمجامع القلوب فتهوي إليه، مشدودة بصدق اللهجة، وروعة الإيمان، ووضوح الأفكار، وجلال ما يعرض من قضايا الإسلام. خُطبه ودروسه ملتقىً للفكر و العلم ومدرسة للدعوة في أي مكان يحلّ به، فقد وهبه الله ملكة أن يملك مشاعر مستمعيه حين يخطب. 

رجل إصلاح، عالم بداء المجتمع الإسلامي ودوائه في شتَّى ربوعه، وهب حياته للعلم و وقفها على كشف العلل، ومحاربة البدع وأوجه الفساد في لغة واضحة لا غموض فيها ولا التواء. يجهر بما يعتقد أنه صواب دون أن يلتفت إلى سخط من لايعجبه قوله؛ أويبالي بغضب من لا يسمع من كلامه إلا آخره أو أوله، دون أن يكلف نفسه أذن سماع كلامه كله. الشيخ عدنان يحرّكه إيمان راسخ وشجاعة مطبوعة، ونفس مؤمنة.

ولايخفى علينا جميعا أن وسائل الإعلام النمساوية تهتم بالتقاط مايقوله الشيخ من كلمات معتدلة تدعو إلى اندماج إيجابي للأقليات المسلمة داخل المجتمعات الغربية يحافظ على الهوية ويحقق الفاعلية والمشاركة، فمسجده ملتقى لزمرة الإعلاميين الأجانب منهم والمحليين. فهو يحاول أن يحيى أمة، وأن يصلح جيلاً، ويفتح طريقًا. أن يربي شبابًا، ويبنى عقولاً، ويرقِّي فكرًا. وهو حين ينصح تجده حكيماّ، وحين يعطى تجده كريماّ. 

وحسبنا شهادة أمثال العلامة الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي قال : إن العلماء كل منهم يحمل بيده مصباحا أما الشيخ عدنان فقد زوده الله بمصابيح يضيئ بها ما يتناوله من موضوعات، وصرح العلامة البوطي أنه وجد في الشيخ عدنان العالم الموسوعي الجامع الذي تمناه دائما و لكنه كان يظن وجوده أمرا نظريا، وقد سئل العلامة البوطي عن الشيخ في محاضرة عامة فشهد بأنه لم يلتق في حياته كلها بمثله. اللهم أعطه فى العلم زيادة، وثبته على الحق يا أرحم الراحمين.


المولد والنشأة

وفي محاولة للإقتراب أكثر من فكر ونشأة الشيخ عدنان أجرينا معه هذا اللقاء لتعريف القارئ -وخاصة من أبناء الجالية المسلمة بالنمسا- بنشأة وجذور تجربته الدعوية والعلمية الموسوعية. 

وحول نشأة وجذور تجربته الدعوية و العلمية الموسوعية يقول الشيخ عدنان إبراهيم: "أنا من أهل فلسطين المحتلة وولدت في معسكر النصيرات بمدينة غزة عام 1966.. و التي كانت تحت الرعاية المصرية قبل نكستنا ـ أو نكبتنا ـ في1967. وفي هذا المعسكر إعتدنا على المنظر المخوف لجنود الإحتلال الصهيوني الذين يختالون بدبابتهم وعرباتهم المصفحة ويقتحمون علينا البيوت في فحمة الليل كما في بياض النهار".

في هذا المعسكر ووسط أجواء الإحتلال البغيضة أبصر الشيخ عدنان النور واستقبل حياته وزاول هناك تعليمه، وحفظ كتاب الله الكريم فى طفولته.. إلي جانب إطلاعه وإلمامه ببعض أمهات الكتب الشرعية وتطوافه الذي لم ينقطع في عوالم المعرفة ودنياها الفسيحة .. أتم تعليمه الثانوى بغزة .. سافر إلى يوغسلافيا ( البوسنه حالياّ ) لدراسة الطب. ومع إندلاع الحرب العرقية بالبلقان لم يتم الشيخ دراسته، التي كان قاب قوسين أو أدنى على الإنتهاء منها .. جاء إلى النمسا زائرا ثم آثر الإستقرار بها.

وبفضل الله منَّ سبحانه وتعالى على جاليتنا الإسلامية بالنمسا بواحد يبسط علوم الدين ويربطها بمستجدات العصر في خطب يجتمع لها المئات من أبناء الأقلية المسلمة. بدأ الشيخ عدنان الخطابة والدعوة إلى الله والدروس العلمية فى مختلف العلوم الشرعية والإنسانية والكونية وغيرها بمسجد الهداية بفيينا ..ثم أسس جمعية لقاء الحضارات التي تشرف على إدارة مسجد الشورى .

ويواصل الشيخ عدنان حديثه قائلا: "أذكر من نشأتي الأولى في الدراسة أنه لوحظ عليَّ تميزي في فن الرسم. وأذكر أنني كذلك كنت أتجافى الحفظ و أنحاز إلى الفهم و التبرير فلم أحفظ إلا مضطرا قبل دخول الفصل بدقائق أو بعد دخوله، وكان الأساتيذ يعتقدون أنني أجتهد في حفظ ما يوكل إلينا حفظه من شعر أو قطع نثرية أو حتى آيات قرآنية. في حين كان الواقع أنني ألقي نظرات مكثفة على الصفحات قبل أن أدلف إلى الفصل أو أسمع بتركيز ما أود حفظه من زملائي بعد دخول الفصل حين يشرع بعضهم في تسميع محفوظه فما هو إلا أن أسمع واحدا أواثنين حتى أكون قد حفظت المطلوب مني وعند التسميع لا تسجل علي بفضل الله هنات ."


إعتزاز الشيخ بأساتذته

وعن أساتيذه يقول الشيخ عدنان: "من الله علينا بأستاذـ يرحمه الله رحمة واسعةـ يدعى الأستاذ محمد الحنفي قد تقلد إمامة مسجدنا مسجد النصيرات- مسجد القسام حاليا-كان عالما في النحو وفي اللغة العربية أيضا بل عاشقا لهما، استطاع أن يحبب إلينا علوم العربية وكذلك العلوم الشرعية من أقرب سبيل، مؤيدا ـ بعد فضل الله تعالى ـ بقوة على ما هو فيه، متوسلا بأساليب التشجيع و إلهاب الهمة، حتى أنه كان يستطار فرحا للجواب يأتي به أحدنا عن عويصات المسائل ومن لطيف ما أذكر من النوادر التي وقعت لي معه –كما يقول الشيخ عدنان-: أنه قال لنا في مطلع السنة الدراسية الخامسة و هي السنة الاولى التي بدأ يدرسنا فيها : أنا أحب من التلاميذ المجتهد النجيب، و أحذركم من التعلل بالنسيان أو الحسبان، فعندي لا مكان ل : نسيت أو حسبت، التلميذ المجتهد هو عندي كبعض ولدي أو أحب، فلابد أن تثبتوا جدارتكم حتى تحظوا بمحبتي وتقديري. وسأفضي إليكم بمعلومات كثيرة، على أن أسألكم بعد سنتين كاملتين عن بعض ما ألقيه إليكم في أوائل هذه السنة، من باب التحدي لهممنا والإيقاظ لذاكرتنا، وكذا كان، فبعد انصرام العامين وقف يذكرنا بذلك ثم ألقى إلينا سؤالا عن إسم بيت الظبي وكان تلاه علينا منذ عامين فلم يوفق أحد إلى تذكره إلا أنا بفضل الله سبحانه و منته "الكناس".

ويضيف الشيخ: "أشهد للأستاذ محمد الحنفي أنه هو الذي ربطنا بالكتاب عامة وليس بالكتاب الدراسي فقط، فقد أنشأ لنا مكتبة صغيرة كان من حسن الطالع أن كان فيها إلى جانب العبرات والنظرات للمنفلوطي وبعض كتب العقاد وطه حسين سلسلة "الناجحون "، وهي سلسلة لبنانية تتحدث عن نوابغ الرجال من الشرق والغرب، شاقتني هذه السلسلة كثيرا و لذت لي، وأوجدت في نفسي دافعية هائلة أن أنضم إلى لواء هذه الأسرة الكريمة من النابهين و النابغين، فمن يدري ؟".


العلم إصطفاء إلهي؟!

ويواصل الشيخ حديثه عن الذين شجعوه و نموا فيه روح الإطلاع وعشق المعرفة فيذكر شيخا حبيبا له عليه الكثير من الأيادي البيض : الدكتور محمد حماد . يقول : وقد كنت في تلكم الفترة أقرأ بنهم وشغف شديدين، حتى إتفق مرة أن انتبهت إلى أنني لم أذق غمضا ليومين كاملين، شغلا بقراءة مجلد ضخم لمحمد فريد وجدي، ولم يكن يتخالجني أدنى أمل في أن أصير يوما أحد العلماء، ذلك أنني كنت أعتقد أن علماء الدين يولدون علماء، ضرب من ضروب الإصطفاء الإلهي، كما يصطفى الأنبياء والرسل الأمر الذي انعكس في نفسي على شكل إجلال غير عادي ـ مزيج من الهيبة و المحبة المفرطين ـ للعلماء وأهل الله.

إلآ أن الله جل ذكره أراد أمرا آخر، و إذا أراد سبحانه أمرا هيئ أسبابه، فقد أهداني أخ حبيب فاضل ـ عبد الرحمن الجمل، الذي هو الآن عالم جليل متخصص في علوم القراآت، و حاصل على أعلى الإجازات فيها، وفقه الله و سدده ـ كتابا للشيخ محمد الغزالي ( تأملات في الدين والحياة ) قرأت في سطوره الأولى قوله يتحدث عن نفسه : أنه ما كان يتخيل وهو في طفولته ـ ولا أحد من القريبين منه ـ أنه سيصبح يوما داعية إلى الله، عالما من علماء الدين، يا لها من إشارة أدركت معها أن العلم الشرعي يتحصل عليه بالجد والمثابرة، شأنه في ذلك شأن كل علم، فانفسح أمامي أمل عريض وتمهدت لي طريق كنت أظنها من قبل لا تصلح لي ولأمثالي. 

ويضيف الشيخ أذكر أنه كان يأتينا في السنة مرة أو مرتين عالم جليل من علماء فلسطين في الداخل وهو الشيخ العالم المجاهد إسماعيل الجمل حفظه الله و أمتع به، وكان يقال لنا أن هذا الرجل التقى بسيد قطب رحمه الله بواسع رحماته وبات معه ليال وأنه عالم كبير. كانت هيئته هيئة العلماء وبزته بزتهم، يقرأ القرآن بنغمة رخيمة وخشوع تشعر معها أنها قراءة عالم لا قراءة إنسان خفيف الوزن متشبع بما لم يعط، صوت يمس حقا شغاف القلوب.

بعد ذلك ينطلق معه طلاب العلم ومحبو العلماء إلى منزل آل الجمل ـ و هي أسرة ذات علم و صلاح وفقهم الله و نفع بهم ـ حيث ينزل ضيفا. وكنت أسمع من هذا الرجل مالا أسمعه من الوعاظ في مسجدنا، حيث كان يتحدث عن الأسماء الكبيرة مثل ابن حزم والشاطبي والغزالي والشهرستاني. ولم أكد أصدق مرة نفسي حين سمعته يتحدث عن الشهرستاني و ملله ونحله، و أين أنا إذ ذاك من ذلكم، فالشهرستاني نقرؤه بالواسطة لا مباشرة، فقد تردد ذكره كثيرا في كتاب الدكتور محمد البهي ( الجانب الإلهي )، إذن فأنا أمام عالم من قامة البهي، هكذا بدا الأمر لي وقتها ". 

ويضيف الشيخ عدنان: "وأذكر أن الشيخ محمد حماد باركه الله قال إنهم بصدد إجراء مسابقة لحفظ جزء عم وأن الجائزة ستكون كتبا ففرحت بذلك ورغم أني كنت أتجافى عن الحفظ ولا أحبه فقد حفظت جزء عم بين الظهر والعصر وكنت الأول وأخذت مجموعة من الكتب. وبعد عدة أشهر أعلنوا عن جزء تبارك فحفظته بين المغرب والعشاء بحمد الله. وآخر ثمانية اجزاء من كتاب الله حفظتها في سبعة أيام".

و مما إتفق لي مع الشيخ محمد حماد أن رأى مرة بيدي كتابا في الفلسفة، فقال لي : أين أنت من أصول الفقه؟ إستدللته على كتاب فيه ـ وكانت أول مرة أسمع فيها بهذا العلم ـ فدلني على كتاب الشيخ خلاف رحمه الله، فقرأته و لخصته ـ على عادتي التي إستمرت معي زهاء عشرين سنة ـ و في اليوم التالي أتيته بينا هو يلقي درسا في الفقه و قلت له : لقد قرأت كتاب الشيخ خلاف، فرمقني بنظرة سريعة ثم عاد إلى ما كان فيه، فأثر ذلك في نفسي كثيرا، فعدت إليه قائلا : لقد قرأته ولخصته، فقال متعجبا : ماذا؟ أرني، و ألقى على الدفتر نظرة تحقق معها أن الأمر جد، فقطع درسه وقام فانتحى مع ثلاثة من إخواننا ناحية ثم قال : أنظر أنا لن أسألك سؤالا سهلا، بل سأسألك سؤالا صعبا، أيمكنك أن تذكر لي الفرق بين العلة والحكمة؟ أجبت : سأحاول، وشرعت على استحياء وخوف أجيب بما ظهر بعد جولة سريعة في علم لا يزيد عهدي به على ليلة و بعض يوم، ولما انتهيت قام الرجل يصرخ : أشهد أنني قد فهمت هذه المسألة جيدا، و أنها وضحت لي الآن تماما، يا فلان وفلان ويا فلان قوموا عن هذا الشاب ـ وكنت حينها في نحو الرابعة عشرة ـ حرام أن نضيع عليه من وقته ساعة.


هواجس أنطولوجية

وينتقل الشيخ عدنان بحديثه إلى تجربته مع الشكوك والهواجس الوجودية التي اعترته في مطلع صباه فيقول: "في الفترة المبكرة من حياتي كانت تجتاحني هواجس وجودية وشكوك أنطولوجية ـ عرفت بعد وقت طويل أنها راودتني مبكرا قبل أوانها ـ تنصب في معظمها على القضايا الأكثر أهمية وخطورة : قضية وجود الله قضية دواميته تعالى ذكره، أزليته وأبديته، فكرة الخلود والأبدية كانت تؤرقني ولم أكن أستطيع تصورها وهضمها وكانت تراودني هذه الوساوس بشكل مستمر حتى إنني كنت أحيانا أقف في منتصف الطريق دون وعي مني فور أن تحل بساحة ذهني هذه الأفكار.

ولم يكن لدي من الجرأة والشجاعة مايتيح لي أن أسأل أو أفضي بما يعتلج في نفسي ومايجتاحني من هذه الوساوس والشكوك إلى أستاذي مثلا ؛ لأنني كنت أعتقد أنني سأتهم بالكفروانحلال عقدة الإيمان، فكنت أطوي جوانحي على هذه الشكوك وعلى هذه الآلام الفكرية عسى أن يتيسر لي من يشفيني منها. حتى والدي حفظه الله ـ و أحسبه إن شاء الله من الصالحين والله حسيبه ـ لم أكن لأفضي له بشيئ من ذلك، رغم أنه كان في تلك الفترة المبكرة يشكل لي ـ إلى حد ما ـ مرجعية، ربما من أجل ما كنت أعلمه من صلاحه وما إتفق لي رؤيته من كراماته، وربما من أجل كتابه الضخم ـ جدا في ذلك الوقت ـ تفسير الجلالين الذي كنت أفتحه لأقرأ ولا أفهم شيئا. إلى أن يسر الله لي وأكرمني بدخول المسجد ـ الذي كنت أظن أنه وقف على الكبار فقط، لا يجوز للصغار من أمثالي أن يجاوزوا عتبته المقدسةـ وجلست في أول صلاة جمعة أصليها أستمع للخطيب الأزهري ـ الشيخ طهبوب رحمه الله ـ وفي العصر عدت وكذا في المغرب وبعد صلاة المغرب إتفق لي شئ كان له أثر إنعطافي في حياتي، حيث دخلت مكتبة المسجد لأجد مئات الكتب مصفوفة تنادي على أمثالي بالجهل والحجاب، لم أكن أظن أن في الدنيا هذا الكم الهائل من الكتب، وكم كانت؟ لعلها لم تجاوز الألف، فدارت بي الأرض، فهذا كتاب يقع في 7 مجلدات إسمه (الأم) ووقع في وهلي أنه يدور حول الأم كما نكتب عنها في موضوعات الإنشاء والتعبير، وقد كنت أكتب ـ ما شاء الله ـ عشرات الصفحات في هذه الموضوعات و أشكالها، فبان لي وقتها أنني لا شيئ، ـ طبعا بعد حين لم يطل عرفت أن الكتاب ليس على ما وضعته عليه و حسبته، بل هو كتاب ـ بل كتب ـ للإمام الشافعي في الفقه الإسلامي الوسيع، كما رأيت إلى جانبه ليلتها كتاب (إحياء علوم الدين) في خمس مجلدات، خامسها هو عوارف المعارف للسهروردي، ثم ثمان مجلدات تحت عنوان( في ظلال القرآن) لسيد قطب و وو ووو ... كتب كثيرة.


من هنا تعلم

ويروي الشيخ عدنان بعض ما إتفق له في تلك الليلة المباركة، يقول : "جاء رجل ـ أبو الحسين الشريف ـ عرفت بعدها أنه أستاذ، رجل صالح ومن حملة كتاب الله، حيانا تحية الكبار وكان لهذا أثر عظيم في نفسي، كما خاطبنا بما لم يكن يخاطب به إلا الكبار، مثل : بارك الله فيكم..وجعل يسألنا : مثل من تحب أن تكون يابني؟ فمن قائل : مثل مصعب بن عمير ومن قائل مثل خباب إبن الأرت .. عبدالله بن عمر ..عمر .... ولاأخفي سرا أنني لم أكن أعرف أكثرما سمعت من أسماء، ولما جاء دوري قلت :لا أحب أن أكون مثل أي من هؤلاء. فارتسمت على وجه الشيخ الدهشة.. فواصلت قائلا: لأنني أحب أن آخذ من كل واحد منهم أحسن مالديه، فاعتنقي وقال بارك الله فيك يابني.

بعد أسابيع يسيرة أصبح الشيخ عدنان أمينا لمكتبة المسجد وقلت هذه فرصتك يا عدنان لتبحث عن جوابات للأسئلة التي تؤرقك..و حدث أن فتحت يوما أدراج المكتبة التحتية فوجدت مجموعة من الكتب وقد كتب عليها بقلم أزرق: تمنع قراءته.. ممنوع قراءته.. فيه رواسب. بعض هذه الكتب كانت لمصطفى محمود كـ"حوار مع صديقي الملحد" و"الماركسية والإسلام" فكانت الوصية المكتوبة إغراء لي بمخالفتها، و ـأحب شيئ إلى المرء ما منعه ـ والعجيب أنني وجدت في تلك الممنوعات ما أقنعني وأسعدني مما لم يكن يحسن الشيوخ قوله، أو لا يريدون، فأفرخ روعي وسكن فؤادي ورأيت أن ألقي العصا بعد أن إستقر بي النوى، ولم أدر أن هذه كانت البداية الجديدة ".


البدايه الجديدة

ويستطرد الشيخ عدنان قائلا: "بعد فترة أحسست ـ بل أيقنت ـ أن ماعند وعاظنا لايكاد يغنيني، كانت مواعظ وخطبا مكرورة تقول الشيئ نفسه وتراوح في مكانها، أسمع وأتساءل ما الذي أفدته؟ قنطار خروب ودرهم عسل ـ كما يقول المثل التركي ـ ماجعلني أجتهد على نفسي أكثر وأكثر..ولكن أن تتعلم على نفسك وأن تكون أستاذ نفسك وشيخها مسألة شاقة حقا، فالمعارف كثيرة وبالتالي فالأسئلة كثيرة ومتزايدة في حقول شتى، كنت ربما أشتري الكتاب وأقرأ فيه فلا أكاد أفهم شيئا". 

أذكر أنني إشتريت كتابا فلسفيا عن "التاريخانية" فلم أفهم معنى التاريخانية..أي أنني مطرود من الباب، لعلي كنت إبن ثنتي عشرة سنة، بعد سنين أمكن التعامل مع ذاك الكتاب بعد أن طال إنتظاره مع أمثاله من الكتب على رفوف المكتبة المتنامية، ولكني كنت أفهم وأستفيد من كتب محمد و سيد قطب والشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي، و عماد الدين خليل والبوطي ... ، كان أول درس ألقيته على الكبار و ليس الصغار فقط عبارة عن تلخيص أمين لكتاب للعلامة البوطي ".

ويضيف الشيخ: "أول مرة قرأت فيها إشارة عن نظرية النسبية لألبرت أينشتاين أستطيع أن أقول أنها أحدثت زلزالا في نفسي لأن لها علاقة بهمومي وشكوكي الأنطولوجية، بيد أنها قاربتها من منظور جديد علي الكلية تماما : تمدد الزمان، إنكماش الزمان، نسبية الزمان والمكان والكتلة، كنت أسأل الذين يكبرونني وكلي أمل أن يستطيعوا الإجابة عن بعض تساؤلاتي حول ما لم أستوعبه من مفهومات هذه النظرية الغريبة، فلم أجد عندهم شيئا فواصلت رحلة التلمذة الصعبة على النفس".


المثقف يتابع دائما

ويقول شيخنا الكريم: "توسعت دائرة مداركي عندما قرأت في الفلسفة والعلوم العقلية والكونية أيضا وبدأت أدرك حاجتي إلى تعديد المناظير ما وسعت الهمة وإستوعبت الملكة، كما أدركت أنني سرت في طريق لا نهاية لها : من المحبرة إلى المقبرة، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رضوان الله عليه، وأن الشبر الثالث في هذه الطريق ليس ينتهي إلى غاية إلا أن تكون إعلامك بأنك لا تعلم شيئا، وقد أحسن ما شاء من قال : " العلم ثلاثة أشبار من قطع الشبر الأول تكبر ومن قطع الشبر الثاني تواضع ومن قطع الشبر الثالث علم أنه لايعلم،  فلا تكن أبا شبر"، فالعلم مؤشر للجهل، أن تعرف مدى جهلنا مسألة لا تتحقق إلا بمقدار علمك، أما الجاهل فأكثر المعضلات والألغاز والمحيرات عنده مفهومة وسهلة، وعلامات الإستفام قليلة جدا، ورحم الله إمامنا الشافعي حين يقول : 

كلما أدبني الدهر أراني نقص عقلي    و كلما ازددت علما زادني علما بجهلي

فالمثقف الشغوف له بداية مستمرة، وهو حين يقف يشعر أنه عاد من حيث بدأ، فالمعرفة دائرة أولها و آخرها سواء.


فترة المراهقة..شعلة نشاط

ويدلي الشيخ بدلوه في نظريات التربية وعلم النفس، حيث يقول: "أعتقد أن فترة المراهقة منجم للنشاط والفاعلية والفضول وأن على المربين أن يعنوا بفتح طرق الثقافة والفكر والعلم أمام المراهق، مشيرا إلى أن بعض علماء النفس يرون أن الذكاء يتوقف في سن الـ18 ..ولكنه يقول : أنا لاأحب أمثال هذه النظريات الجبرية الحتمية المغلقة، بل أحب وأنحاز إلى النظريات المفتوحة التي تعطي الإنسان إمكانيات مفتوحة.

لذلك إذا قارنا بين النظريات التحليلية النفسية والنظريات السلوكية أجدني رغم مايبدو عليه المنهج السلوكي من بساطة وإختزالية REDUCTION إلا أنني أجدني متعاطفا مع هذا المنهج أكثر لأنه يعد ببداية متجددة دوما NEVER TOO LATE في حين أن المنهج التحليلي النفسي يغلق هذه الإمكانات ويجعل الإنسان رهنا للسنوات الفائتة من عمره وبالذات السنوات الخمس الأولى والأمر لابد أن يكون أوسع من ذلك.

من هو عدنان إبراهيم! ؟

من هو عدنان إبراهيم! ؟


لقد سبق الشيخ العلامة عدنان إبراهيم معاصريه بـمفاوز، علما وفكرا وخيالا وتعديدا للمراجع، بل وقوى اقتراحيةً ناضجةً تفاجئ حتى عقلاء الفكرِ والمعرفةِ، إلى درجةٍ تُفْقِدهم الثقة بما عندهم، وتحسِّسَهم ببعد المسافة التي بينه وبينهم.

أعرفه من المدافعين القلائل عن المبادئ الخالدة، من صدقٍ، وبحثٍ عن الحق وقولٍ به، ونصرةٍ للمظلوم، ورحمةٍ بالخلق.. مقدِّما لهذه المبادئ على ما سواها، وجاعلا إياها الحَكَم والقاضِيَ على الأفكار والنظريات، وحتى على الرجال مهما علا شأنهم، ولاح نجمهم.
إنه يضرب أروع الأمثلة وأوضحَها في مبدأ قِدَمِ الحق وصموده ضدَّ البهارج والزيوف، قِدَمًا لا تقادُما مع الأيام. حيث لا يمكن أن يَحل تزييفٌ مَحلّه، وإن ألبسوه أبهى الحُلَل، وإن كثُر القائلون به، ولو بأعلى الأصوات، بل وبأقواها. الشيء الذي سيقلق راحة النمطيين من المشايخ، ويقطع عليهم شخيرهم، وسيقلق راحة القوى الفكرية البسيطة، ممن أحيطت عقولهم بالأسلاك الشائكة، التي منعتهم من الاستفادة من كثير من الأبعاد في عملية التعقل. وكما سيقلق حتى ذوي النفوذ الذين يفضلون أن يتمثَّل الناس عقلا جمعيا، معروفا مساره، بسيطة أفكاره...صيانة لنفوذهم.

أما الشابَّةُ قلوبهم، والحادة عقولهم، والسريعة بديهتهم، الممتعضون من بضائع سوق الأفكار المترهلة – هذه الأيام - ، وبضاعة الفضائيات المضحكة في كثير من الأحايين، فالشيخ عدنان يعتبر بديلا حقيقيا، وانعطافا في تاريخ الفكر المعاصر، وأستاذا في الشجاعة العلمية والفكرية، بل ومبدعا حقيقيا، وسَقْيًا راوِيا في عهد الجفاف المعرفي النوعي. أما الغثاء فكثيرٌ..مع بهوتة لونه، ومساخة طعمه. ولكنْ.. لا يُرى على حاله إلا بالبصائر لا بالأبصار.

لقد عرفت الشيخ العلامة عدنان إبراهيم عبداً حرًّا، لا يقبل ولا يرضى بأي قيْد كان، إلا من الله تعالى في كتابه، وما صح سندا ومتنا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهو يمارس ما أنيط بعقله الحر من تدبُّرٍ وتفكُّر واستنباطٍ بامتياز، حيث يستجيب لله ولرسوله مستميتا للكينونة والبقاء في طليعة أولي الألباب والنهى، فلم يُعطِ عقله يوما لأي شيخ أو تيار ديني أو فكري إلا على سبيل الإعارة الوقتية، ريثما يتأكد من القول أو الفعل هل هو موافق للصواب والرجحان أو مجانب لهما.

وحتى أزيل الغبش عمن يحاول تصنيف الشيخ، وأساعده على العدل في الشهادة والحكم..فالشيخ رغم كونه حرا طليقا في اقتناعاته، بفضل قراءته للآلاف المؤلفة من الكتب، إلا أنه مولع بمنهجية الشيخ العلامة القرضاوي في التعامل مع الكتاب والسنة، وكذلك العلامة عبد الله بن بية ومن سار على منوالهما الفقهي الفريد، ففيه من استبصار الغزالي، وحُنُو البوطي، وتأملات الشعراوي، وربانية عبد الله بن المدني، وموسوعية الجابري، وإنسانية عبد الوهاب المسيري..فهو لا يوافق أحدا منهم ومن غيرهم من كل الوجوه، وإنما يوافقهم في بعضها إن وافقهم ويخالفهم في أخرى.

أما عن همومه حفظه الله، فقد اجترَّ تراكمات المآسي الفلسطينية، فتمثَّلها مع باقي جراح الأمة وقام مناضلا مكافحا عما استطاع من قضاياها، فجعل من نفسه محاميا لا يفتر عن الدفاع عنها، في جميع المحاكم على اختلاف مراتبها، بل وفي كل محفل، إلى درجة الخروج عن الصواب أحيانا، وكأنه يُطعَن بالخناجر، أو يقوم على المجامر..يفاجِئُ الحاضرين وهو على المنبر بصرخةٍ، صرخةِ مُكتَوٍ بالنيران الملتهبة في صدور أمهات شهداء غزة، وبكاء أطفالها اليتامى...

لا أزكي شيخنا على الله، فهو أعلم بمن اتقى، ولكنها شهادةٌ فيه عن علم، وإنصاف لمن تعلمت منه مدة تزيد عن عشر سنين، فهو باري القوس، وفارس الميدان، والصَّاحب لكل منبر..يحفظه الله من كل مكروه، فلو علم الطاعنون فيه من المتعجِّلين ما أعلمه منه، لـهُرِعوا لوضع أيديهم في يديه، توفيرا للوقت، وإنقاذا لما يستطيعون إنقاذه للأمة من المحن التي تمر بها، لو كانوا يعلمون...

الشيخ مصطفى الشنضيض ، رئيس المجلس الإسلامي المغربي في اسكندنافيا .

لماذا يعجبهم عدنان إبراهيم.؟

لماذا يعجبهم عدنان إبراهيم.؟


 لماذا يعجبهم عدنان إبراهيم.؟!

حملات الهجوم التي تشنها مجموعات من المتشددين على المفكر العربي المغترب "عدنان إبراهيم" عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ليست غريبة في ظل الشعبية الكبيرة التي حظي بها في الأوساط الشبابية العربية، والتي بدأت تزعزع عروش دعاة الكراهية والتحريم وتعطيل العقول بشكل غير مسبوق، وأقول "غير مسبوق" لأن مثل أطروحات هذا المفكر الإسلامي الرصين والعصري لطالما قوبلت بـ"التفسيق" و"التبديع" وربما "التكفير" مع التضييق على صاحبها في المجتمعات العربية قبل ثورة الإتصالات، وهذا كان كافياً لوأدها أو انفضاض التبعيين من حولها لإعتبارات مختلفة ليس منها "الاقتناع" بكل تأكيد. 

معركة أعداء "عدنان إبراهيم" مع أفكاره اليوم في ظل هذا الإنفتاح العالمي في الإتصالات تبدو خاسرة بجدارة، بل إن حجج هؤلاء الأعداء تتهاوى مع كل مقطع فيديو جديد يقذف به هذا العدنان في موقع يوتيوب، محولاً به خصومه إلى مواد للتندر والسخرية ونماذج حية للسذاجة والجهل بأبسط مقاصد وغايات الدين الإسلامي.

على خصوم "عدنان إبراهيم" إن كانوا جادين في تخطئته أن يفهموا أولاً لماذا يعجب كل هؤلاء الشباب بأفكاره ويقتنعون بها وينشرونها بينهم، في ذات الوقت الذي يعلنون فيه قطيعتهم مع الدعاة الذين انشغلوا بشراء المتابعين في تويتر، وافتعال المعارك الساذجة مع مخالفيهم بحثاً عن الضوء وتصفيق الغوغاء.

بالنسبة لي.. أقف على الحياد من هذا الداعية العصري فلا أنا من المنحازين له الفرحين بما يقدم، ولا أنا من الرافضين له لمجرد أنه خالف الطريقة الدعوية التقليدية، لكنني في الوقت ذاته أتفهم أسباب إعجاب ملايين الشبان العرب به وإنحيازهم التام له، فهؤلاء تربوا على ثقافة "رعوية" تبحث عن "مخلّص" بشكل مستمر، ولذلك فمعظمهم يتطرف في الإنحياز لكل من يخاطب عقولهم باحترام، أويحقن مشاعرهم بأسلوب فيه الكثير من الصدق والمحبة..

أيضاً هناك سبب لايقل أهمية عن السابق وهو رغبة هؤلاء الشباب الجادة والقديمة في الإنعتاق من قبضة ثقافة "الترهيب الديني" التي تنحو باتجاه توسيع دائرة المحرم وتضييق دائرة المباح إلى الحد الأقصى، وكيف لهم ألاّ يُعجبوا برجل قادرٍ وبكل سهولة على إسقاط حجج الطواويس المتطرفة بنفس سلاحها العتيق "النصوص الشرعية" وهو يضحك، إضافة إلى دعوته المنطقية إلى إعمال العقول التي تم تخديرها من قبل المتنفعين من جهل الأمم الذين حولوا دين العقل إلى "إفيون" معطّل للحياة وكل ما فيها.

أقولها بكل صراحة وأجري على الله: لن ينتصر عشاق الظلام في معركتهم ضد رجل يغري الناس بالنور ويتعامل مع عقولهم وعواطفهم بكل إحتراف، ولذلك فعلى الدعاة التقليديين الذين ينفض المولد من حولهم سريعا، أن يتصالحوا مع عصرهم وواقعهم ويتخلصوا بشجاعة من الظلمة التي حشوا بها عقولهم طوال حياتهم، ليتداركوا ما يمكن تداركه من شعبية انتهى عصرها وتهاوت صروحها، وهم أول من يدرك ذلك جيداً.
يتم التشغيل بواسطة Blogger.