الحلقة: الثانية عشرة - بعنوان: متاعب وتحديات
الإعتراض الأول: قدَّمَهُ عالِم الحيوان الإنجليزي جورج ميفرت. وهو يقول: أنَّ الإنتخاب الطبيعي يُمكن أن يفسر لنا إستبقاء التغيرات التكيفية الناجحة ذات الإمتياز. ولكنَّهُ لا يفسر لنا المراحِل الأولية لنشوء وتطوُّر هذه التكيفات والتغيرات. إلا إذا سلَّمنا بوجود خطَّة مُسبقة تُرغِم هذه التغيرات على التراكُم للوصول لغاية محدَّدة.
يرُدّ داروين على الإعتراض الأول: بأنَّهُ قد ينشأ تغيُّر ما ويكون واضِحا أنَّهُ لا يخدِم الهدف الذي سينتهي إليه بعد ذلك، ثمَّ يحدُث بعد ذلك تغيُّر في وظيفة هذا التغيُّر فيخدِم في إتجاه آخر. (وقد ناقَشنا هذا من قبل).
أساس نظرية التطوُّر هو مبدأ التدَرُّج. والذي يعني أن الإنتخاب الطبيعي يشتغل على زمانية طويلة.
الإعتراض الثاني: وهو متعلِّق بالأشكال الوسيطة (الحلقات المفقودة).
يردُّ داروين على الإعتراض الثاني: بأنَّهُ ربّما كانَت هناك كوارث طبيعيَّة أدَّت إلى إنطِماس هذه الأشكال الوسيطة.
طبعا هذا الردّ يُعتَبَر ثغرة في حدّ ذاته! فلِماذا إنطمَسَت الأشكال الوسيطة فقط ولم تنطمِس معها الأشكال الأساسيَّة أو التي تليها؟! ولكن داروين، على كل حال، عوَّلَ على سد هذه الثغرة في السجل الأحفوري بعدَهُ. وهذا ما حصَل فعلاً. فقد تمَّ سد ثغرات كبيرة وإكتشاف حلقات مفقودة كثيرة.
الإعتراض الثالث: تقَدَّم به عالِم الفيزياء الإنجليزي ويليام طومسون الشهير ب اللورد كِلفن.
ففي ورَقَتِه البحثيَّة بعنوان: "تفنيد موجَز لمبدأ الات ساق" يقُول أنَّهُ حَسَب عُمر الأرض وقد توَصَّل إلى أنه عُمرها لا يتعدى المئة مليون سنة. وهذه بالطبع فترة قصيرة ولا تكفي لكِي تُحدِث هذه التغيرات الموجودة حاليا.ً وهذا يضرِب نظرية داروين.
ويقول كِلفِن أنَّ تفنيدَهُ هذا لا يُعارِض بالضرورة مبدأ التطوُّر. ولكنَّهُ حتما يُعارِض نُسخة داروين من التطوُّر (مبدأ التدرُّج بالإنتخاب الطبيعي).
بعد ذلك بسنين أعادَ كِلفِن حِساباتِهِ وقال أنَّهُ إرتكَبَ خطأ في الحِساب، وأنَّ عُمر الأرض ليس مئة مليون سنة بل ثلاثين مليون سنة فقط! ويُمكِن أن يهبِط إلى عشرة ملايين سنة فقط!
تأثَّر داروين كثيراً بحسابات كِلفِن وبمصداقيَّتِه العلميَّة كعالِم عظيم. وفي الطبعة السادسة من كِتابِهِ أصل الأنواع، إستبدَلَ داروين عِبارة: "هذه الفترة الزمانية الضخمة جداً جداً" بعِبارة: "هذه الفترة الزمانية الضخمة" فقط!
الطبعة الأخيرة (السادسة) من أصل الأنواع هي الطبعة التي يكرهها التطوريون! لِما فيها من تردُّد واضِح وتراجُع لداروين وتغيُّرات في آرائِه أثبَت العِلم خطأها فيما بعد.
طبعا الآن معروف أن عُمر الأرض هو خمسة آلاف مليون سنة (خمسة بلايين سنة) وبذلك يبطُل تفنيد كِلفِن.
داروين كان يتبنَّى نظرية في الوِراثة تُعرَف بنظرية المَزج.
وهي تقول بأنَّ خطوط الدمّ الآتية من الوالِدَين حينَ تلتقي فإنها تتمازَج، وتنتهي دائِما بعد تمازُجها إلى نهايات ونتائِج وسيطة.
مثلاً: إذا هجَّنَّا زهرَتَين إحداهُما حمراء والأخرى بيضاء، فإنه سينتُج زهرة ورديَّة اللون.
نظريَّة التطوُّر عليها أن تُجيب على تساؤلَين:
1. من أين تنشأ التغيرات وكيفَ تظهَر؟
كانَ عِند لامارك جواب بسيط وهُو: الإستعمال والإهمال. بمعنى أنَّ العُضو الذي تستعملهُ يتطوَّر ويتقوَّى، والعكس بالعكس (مثل رقبة الزرافة). كما أنَّ لامارك إفتَرَض أنَّهُ يتمّ توريث هذه التغيرات الناشئة عن الإستعمال والإهمال.
2. كيف يتم توريث هذه التغيرات؟
هُنا داروين يتبنى النظرية المزجية. (داروين لم يفهَم أن تبنِّيه لهذه النظرية يقتُل نظريته!).
الإعتراض الرابع: تقَدَّم بهِ عالِم الهندسَة الكهربائية فليمينج جينكين. والذي سدد ضربة قاتلة لنظرية المزج.
فهُو يقول: لنفترض أن تغيراً ما ظهَرَ في فرد من الأفراد. وهذا التغيُّر كانَ مفيدا فيستبقيه الإنتخاب الطبيعي. ثمَّ يتكاثر هذا الفرد جنسيا.ً فبحسب النظرية المزجية فإنّ عامِل التوارُث سوف يُضعِف هذه الصفة (التغيُّر المفيد) التي ظهرت في ذلك الفرد إلى النصف، وفي الجيل التالي إلى الربع .. وهكذا!
إنَّ جوهر المزجية يقتضي الإنقسام. وبالتالي الضعف والفناء على مدى الأجيال. فبدل أن نصل بعد فترة طويلة إلى جنس جديد بعدَ تراكُم التغيرات، نصِل إلى جنس تتلاشى فيه هذه التغيرات!
تأثَّر داروين جداً بهذا النقد. وفي الطبعة السادسة من أصل الأنواع إرتَدَّ إلى نسخة لامارك في التطور حينَ قال مُعتذِراً: أنا آسف لأنني لم ألاحظ سابقا أنّ البيئة فعلاً لها تأثير قويّ على الكائِن في إحداث التغيير التكيفي فيه. وأنَّ هذا التغيير يتمّ توريثه. (الإستعمال والإهمال).
بعد ذلك بسنوات طرَحَ داروين كتابَهُ في الوراثة من جزئين، وتبنَّى فيه نظرية قديمة لأبقراط وطوَّرها. وهي نظرية تُعرَف ب: التكوينية الشاملة.
التكوينية الشاملة
تقولُ هذه النظرية أن كُلّ خلية من الخلايا البدنية (لا التكاثرية كالمَني) في الأب والأم تُرسِل براعِم صغيرة (وفود) إلى المَجمَع الإنتخابي (الخصيتين عند الذكر، والمبيضين عند الأنثى) وهُناك يتمّ تخليق الجاميتات (حيوان منوي مع بُييضة) ثُمَّ عند التلاقُح تنشَأ اللاقِحة (الزيجوت) وهذا الزيجوت يحتوي على صورة من الأب وصورة من الأمُ.
فإذا كانَ الأب كبير العضلات وقوي ورياضي (أي صفات مكتسبة) فإن هذه الصفات يتم نقلها للأبناء! وكذلك الحال مع صفات الأم. (وهذا أيضا يُعتبر إرتداداً إلى لامارك!).
(طبعا هذه النظرية في الوراثة هي نظرية تأمُّليَّة، وليست تجريبية. ولم تثبُت أصلا !).
الإعتراض الخامِس: وهو يتعلق بالتوزيع الجغرافي للكائنات.
فبِحسب التطور، فإنَّ كل الكائنات على وجه الأرض مُتطوِّرة من كائِن واحِد بدائي في مكانٍ واحِد. ثمَّ انتشرت بعد ذلك في أنحاء الأرض.
السؤال هُنا هُو: فكيف إذاً تُوجَد لدينا مثلاً كائنات مِثل الضفادِع على الطرف الشرقي للأطلسي، وأيضا تُوجَد هي نفسُها على الطرف الغربي للأطلسي على الرغم من وجود فاصِل طبيعي وهُو المُحيط؟ عِلما بأن الضفادع لا تسبَح في مياه مالحة وإلا تموت!
يرُدّ داروين على هذا الإعتراض بِجوابَين:
1- يُحتَمَل أن تكُونَ هذه الضفادِع إنتقلت إلى الطرف الآخر عبر أجسام عائِمة عبر المُحيط.
2- يُحتَمَل أنَّهُ في الماضي السحيق كانَت هُناك جسور بريَّة ما بين القارَّات.
وهذه النقطة أثبتها العالِم الألماني ألفرد فيغنر عام 1912 . في نظريَّة الإنجراف القا ري.
وتقول هذه النظرية أنَّ القارات كانَت مُلتحِمة في قارة واحِدة ثُمَّ إنزاحَت عن بعضِها عبر السنين.
طبعا إتُّهِم فيغنر حينها بالجنون! وظلَّ محطّ سخرية حتى أوائل عام 1960 . ثمَّ ثبتت نظريتهُ في الإنجراف القارِّي بشكل عملي وملموس. فالقارَّات لم تتباعد فقط قديما،ً بل هي حتى الآن مستمرة في التباعُد.
لمشاهدة الحلقة كاملة