قال الله سبحانه "قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلاْلْبَـٰبِ" وعلى هذه الآية تعليق جميل من سيد قطب حيث قال (فالعلم الحق هو المعرفة. هو إدراك الحق. هو تفتح البصيرة. هو الإتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود. وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس. وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة.. هذا هو.. القنوت لله. وحساسية القلب، واستشعار الحذر من الآخرة، والتطلع إلى رحمة الله وفضله، ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة.. هذا هو الطريق، ومن ثم يدرك اللب ويعرف، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب، وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة. فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة، والمشاهدات الظاهرة، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء).
إن من منن الله علينا التي لا تحصى ولا تعد أن جعل لنا عقولا نُدرك بها سقيم القول وعقيمه، وصحيحه وسليمه، وجعل العقل ملتزما للإيمان والعقيدة بلا تضاد أو تناقض، إلا أن يسير في غير محله أو طريقه الصحيح فيبعد عن طريقه ورشاده ويضل ضلالا مبينا. وكما أن الله من علينا بنعمة العقل، فقد من علينا بمن يبعثه ويرشد إليه ويقوده للحق وللحق يخضع، دونما إبطال أو تبطيل أو إسفاف وتضليل .
وإن مما جاد به زماننا علينا وفضل الله يؤتيه من يشاء أن كان من بيننا وفي عصرنا الدكتور العلامة : عدنان إبراهيم. ذو العلم الوافر والمنطق الساحر، تتلقاه العلوم بأفيائها، وتستجلبه المعارف بأطيافها، العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه، قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القوي القويم، فنهض من العقول بما أماتته السنون أو رسن فيها عبث المقلدين ورواسب المخذولين، فكان نهجا آخر واستثناءا فاخرا، فأجزل وأوفى ونصح وكفى.
ورد في الأدب المفرد للبخاري عن أبي هريرة مرفوعا ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس )، ومن حقه علينا الشكر، ورد جميله وعرفانه. فلو سكت عنه الشاكر، لنطقت المآثر، لم أدارسه ولم أحظ بشرف لقائه، لكن كلامي لم يكن بشيء قيل عنه فَطِرتُ به، لقد شهدت شواهد حاله، على صدق مقاله. سمعت جُل ما تكلم به وألقاه إن لم يكن جميعه، والحق يُقال والشهادة لله أنه مذهل في فنه، قوي في طريقته، بليغ الحجة، آخذ بالحق ومتبع للدليل، لا يتقوُل مفتريا، ولا يتأول مجتريا، وليس في تصرفه هوى أو نفاق أو تدليس، وفوق هذا كله محمود السيرة طيب الخُلق مُهنأ القول.
لا يمكن لأحد أن يقطع لإنسان بالكمال التام أو يجزم بذلك فالكمال لله وحده، فما لأحد خُلق بشريا ثم لا يكون في أدائه قصور أو خطأ وتلك سنة بشرية، وذلك شامل للدكتورالعلامة: عدنان إبراهيم، لكن لا يحملنا أن نجد الخطأ على أن نُلغي بركات علمه وبحور حسناته، ولا يحملنا الضد على الإجتراء بالإثم والإفتراء والكذب والتزوير، وللأسف الشديد المُخجل المبكي أن الدكتور العلامة بُلي بخصوم أعانهم المولى على أنفسهم ثم أعانه على بلواهم كأن الحق ما فهموه وما علموه وما كانوا يجهلونه فهو ليس دون منزلة المحرم فالجاهل عدو ما يجهل تأكيدا، فلو كانوا متجردين منصفين لرأينا نقاشا علميا رزينا تتباين أوجه الحق فيه وتتضافر الأدلة وتنكشف شُبه ودلالات، لكن الخصومة حينما يغالبها إستكبار وعدم تمحيص وبحث تصبح ضربا من الهوى والظلم الذي لا يُفضي إلى حجة قاصدة أو نية صدق آصله، والله يفرق بين عباده يوم يقوم الأشهاد .
ثم إن من حُسن الخصومة كما نُدرك ونعقل أن تكون لذات الشُبهة أو الحجة، بالدليل والبرهان، والنقاش والبحث المتين، والقراءة والإطلاع والإحاطة، لا الهوى والإتهام المُبطن وسوء الظن والرمي بالتعنيف والبهتان والإفتراء والتزوير والألقاب المشينة التي تُنبيء عن ضعف وجهل وقلة حيلة.
لا يعنينا أمر الخصومة بقدر ما نرى وضوح الدليل أو تأصيل المسألة أو إرشاد لحجة بينة أو دفع لباطل مشؤوم، وما أظن أن رجلا يتبع الدليل ويقرن أقواله بشواهد جلية وحجج فالجة بيضاء واضحة بعاجز عن دفع شُبه وجهالات خصومه إن لم تكن سخافات، لكن الناس مقامات وأطوار، وعلو ومكانة وإقتدار، فالعمل الدؤوب والإنشغال بالنافع المفيد أجدر أن يكون وخير من عوارض سقيمة لا تزيد الجاهل إلا تطاولا، ولا تزيد السفيه إلا سخفا، فالبعد عن مثل هذه المواطن المُدرة للحقد والضغينة أولى وأفضل.
الدكتور العلامة عدنان إبراهيم أشهد له بعقلية فذه قَل أن ترى مثلها، وعلم وذاكرة جبارة هائلة ندر أن تكون في غيره، وبحث وعلم وإطلاع واسع، وفوق هذا يتمتع باستقلالية في رأيه وحرية في فهمه، فجمع علما وعقلا ترأز لهما عقول المريدين والمنتهلين منه، فإن الناس أطباع وألوان ومشارب في قبولهم للحق من لم يرد الدليل دحضه العقل والعكس، وهما صفتان حباهما الله للدكتور العلامة زاده الله من فضله وأسبغ عليه من نعمه، ولديه من الصفات التي أجزم أنها من طبعه لكنني لا أتكلم عنها للزوم أن أكون ملازما له حتى أشهد بذلك، وإن كان أمرا لاجل التيقن اليقيني ولا يضره أن تركتها فالناس شهود حوله، مناقب تشدخ في جبينها غرة الصباح، ويتهادى أنباءها وفود الرياح.
إن من الخطأ البين والجور العظيم والظلم المبين أن يُشنّع على الدكتور العلامة لأجل إختلاف يطرأ في فهم النصوص أو تأويل المقصود أو عدم فهم الأشكال ، ثم لا يكون من الأمر إلا أن يُرمى بالتهم السمجة الباطلة التي تهوي بقائلها عقلا ومنزلة. لا يستقيم فهم في الأذهان أن نعتمد على الظن مواجهة لليقين أو تصدير حكم هو منه براء، أو تسويغ قول هو له منكر، أو إجتزاء رأي هو له مكمل، وما أجمل وأروع ما قاله الشيخ العلامة الدكتور الرباني بكر ابو زيد رحمه الله في كتابه ( تصنيف الناس بين الظن واليقين ).
حيث قال : ( وإذا علمت فشوّ ظاهرة التصنيف الغلابة، وأن إطفاءها واجب، فاعلم أن المحترفين لها سلكوا لتنفيذها طرقا منها: إنك ترى الجراح القصاب كلما مر على ملأ من الدعاة إختار منهم (ذبيحا) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإن ذلك من شعب الإيمان!! وترى دأبه التربص والترصد: عين للترقب وأذن للتجسس، كل هذا للتحريش وإشعال نار الفتن بالصالحين وغيرهم. وترى هذا "الرمز البغيض" مهموما بمحاصرة الدعاة بسلسلة طويل ذرعها، رديء متنها، تجر أثقالا من الألقاب المنفرة والتهم الفاجرة، ليسلكهم في قطار أهل الأهواء، وضلال أهل القبلة، وجعلهم وقود بلبلة وحطب اضطراب!! وبالجملة فهذا (القطيع) هم أسوأ "غزاة الأعراض بالأمراض والعض بالباطل في غوارب العباد، والتفكه بها، فهم مقرنون بأصفاد: الغل، والحسد ، والغيبة، والنميمة، والكذب، والبهت، والإفك، والهمز، واللمز جميعها في نفاذ واحد. إنهم بحق رمز الإرادة السيئة يرتعون بها بشهوة جامحة، نعوذ بالله من حالهم لا رعوا ).
ووالله ما مثل الدكتور العلامة عدنان إبراهيم أن يُهمل أو يُترك أو يُركن ، فضلا على أن يُتهم ويطعن فيه، إذ أن الطريق لنقاشه مفتوح، وإنقياده للحق وأهله معلوم مسموح، وفي فقده - لا جعل الله ذلك تحقيقا - خسارة عظيمة قاصمة، لكنها سنة الله الجارية على خلقه، وكفى بالله حسيبا بين عباده.
وإن مما يُسلينا أنه صامد منافح في بيان الحق، و كشف الجمود والتقليد الزائف الباطل، وتنوير العقل بالبرهان والنور المشبع بالوحيين، فإن من الناس من لا تمل حديثه صدقا و نزاهة وعلما، يُكبر عقلك ويستثير علميتك ويقودك للبحث والإطلاع والقراءة ويرفع همتك ويرتقي بفهمك وعطائك، ويخرجك عظيما ترنو للجمع لا التفريق ولنصرة الأمة لا للخذلان، فإن يكن أحد من هذا النوع فبلا شك أو ريب أن الدكتور العلامة أبو محمد عدنان إبراهيم منهم.
وحقا أنه قامة إستثنائية زاده الله من فضله وأعانه على طاعته، أطال الله له البقاء، كطول يده بالعطاء، ومد له في العمر، كامتداد ظله على الحر. تولى الله عنا مكافأته، وأعان على الخير نياته، وزاد في نعمه وإن عظمت، وبلغه آماله وإن انفسحت. أبقاه الله للعلم يعلي معالمه، ويحيي مكارمه، ويعمر مدارجه، ويثمر نتائجه. ونحسبه ولا نزكي أحدا على الله أنه من الصادقين المخلصين لدينهم وأمتهم والله تعالى حسيبه ومولاه.
وعسى أن يكون كتابي هذا مُسليا له وحافظا لقدره وحقه، وسهما في الحث على التقدم والإستمرار والثبات، والله تعالى أعلى وأعلم، وأحكم وأرشد، والله الحافظ هو مولانا وعليه التكلان.
بقلم: عبد المجيد عبد الرحمن باحص