يقول : "السَّعادة كُلُّها في أنْ يمْلك الرجُلُ نفْسهُ، والشِّقاوة كُلُّها في أنْ تمْلِكَهُ نفْسُهُ"، صَعْب.. منْ منِ النَّاس منْ يملُكْ نفسَهُ؟ الطريق الطَّويلة الوعِرة التي سار فيها أبوحامد الغزَّالي هي طريق تنْتهي إلى أنْ يمْلك الإنْسان نفسَه.
ومنْ مأثوراتْ أبو يزيد البسْطامي- قدَّس اللهُ سرَّه - وهو منْ جملة منْ إستفاد منْهُم الإمام أبوحامد الغزَّالي أنه قال: "في البداية كنْتُ أسوق نفسي إلى الله وهي تَبْكي -أسوقُها رغْماً عنْها لا تريد- واليوم تَسُوقُنِي وهيَ تضْحك"، أصبحت هي الآن تدْفَعُهُ، أصبحت تلك النفس التي قال الله تعالى عنها: (يا أيَّتها النّفَّسُ المُطْمَئنَّة )، هذه إطْمَأنَّتْ بالخيْر لكنْ بَعد رياضاتْ ومجاهَدَاتْ ومُنازَلاتْ، مقامات وأحوال كثيرة جدَّاً.
أذْكُر مِمَّا قرأْتْ، قبِلْ ربَّما خمسة وثلاثين سنة وأنا طِفل صغير لِأبي حامد في كتاب ميزان العمل، أذكر هذه العبارة بخصوص مِلْك النَّفس، قال رحمة الله تعالى عليه : "قاتِلوا الذين يَلُونَكُم منَ الكُفَّار"، قال: النَّفس أعْدى عدُوِّكْ - ويُنْسَب هذا إلى الرسول - نفْسُك التي بيْن جنْبَيْك هي أوَّلْ ما يجب ومنْ يجب أنْ تُحاربَه وتُنَابذَهُ وأنْ تُقاطِعه وتصارمَهُ، وتُصاوِلَه. فالنَّفْس إذا مَلَكْتَها بإذنِ الله وأخْضعْتَها كنْتَ منَ الفائزين السُّعداء، أما إذا ملَكَتْكْ فستُورِدُكَ موارِدَ الهَلاك. وذَكرَ أيْضاً في الإحياء على ما أذْكُر - رحمة الله تعالى عليه - أنَّ مَثَلْ النَّفْس كمَثّل السَّبُعْ الضَّاري إنْ أنْتَ ارتَبَطَّته إليْكْ، ثمَّ أجَعْتَهُ وأدْأَبْتَهُ، أّمِنْتَ شرَّهُ، فهو مربوط لا يستطيع أنْ يقْطَع الرسَنَ - الرِبَاط هذا - وإنْ أَنْتَ ارتَبَطَّته وأطْعَمْتَهُ وسَقيْتَهُ كذا كذا، فإنَّك لنْ تأمن من أنْ يتمكَّنَ من قَطْع حبْلَهُ وأن يَفْتِك بِكْ. هكذا النَّفس.. لا بدَّ لهذه النَّفس أنْ تُزَمْ وأنْ تُخْطَمْ وأنْ تُذلْ لله - تبارَكَ وتعالى - فِعْلاً السَّعادة كُلُّها في أنْ تمْلِكْ أنْتَ نفْسك، والشِّقاوة كُلُّها أنْ تمْلِكَكَ نفْسُك، فإنَّها تنْزعْ بكَ إلى شرِّ منْزع كما قال السَّادة العارفون.
لهُ عبارة عظيمة من ثلاث كلمات "الهُمُوم بِقَدْرِ الهِمَمْ"، وكما قال أبو الطيِّب:
لكُلِّ جسْمٍ في النُّفُولِ بليَّةٌ **** وبلاءُ جسْمي منْ تفاوُتِ همَّتي
فعندما تكون الهمَّة العظيمة يكون الهمْ أيْضاً عظيماً، وأيْضاً له بيت آخر:
وإذا كانت النُّفُوسُ كِبارا **** تعِبتْ في مُرادِها الأجْسامُ
فالهُمُوم بقدْرِ الهِمَمْ.. اللَّهُمَّ اجعل ذاتَكَ المُقدَّسة همَّتنا، طلَبَ وجْهِك همَّتنا.
هذي عبارة جملية جدَّا جدَّا، مآ أجْمَلها، وفيها صورة رائعة، يقول: مَثَلُ الإنْسان في عُمُرهِ - يعني مثَلُهُ معْ عُمُرهِ، معْ أيَّام حياتِهِ التي تتقضَّى وَحِيَّه - كمثَلُ رجُلٍ كان يبيعُ الثلجْ في وقتْ الصيف ولمْ تكُنْ له بضاعة سواه, فكان يُنادي يقول: إرحموا منْ رأس مالِه يذوب، ويالها من عبارة جميلة جدا، يا الله.. ما أروع هذه العبارة!!!! ونحنُ يوميَّا رأسُ مالنا وهو عمْرُنا يذوب، مع كل ساعة يذوب، مع كل يومْ يذوب. هذه العبارات حين تقرأها له في كتُبِهِ تَتأثَّر بها جدا، وتشعر فعْلاً كما قلتْ لكم أنَّها مُسرْبَلة بالإخلاص، خارجة من نبع الورع والتُّقَى والفُتُوح الإلهية لمنْ يُعَبِّر مثْل هذه التَّعْبيرات رضوان الله تعالى عليه.
أخيراً أخْتِمْ بهذه العبارة له، الرِّياء يتولَّد منْ تعظيم الخَلْق، والرِّياء أن يعمل الإنسان العمل الصالح ممَّا يُراد به وجْهُ الله والدار الآخرة، لكنَّه للأسف يعْمَله لكي ينْظُر النَّاسُ إليْه، لكي يرى النَّاسُ عمَلَهُ، فهذا إسْمه الرِّياء، وهو ضرْب منْ ضروب الشَّركْ - والعياذ بالله-، ليس الشّركْ المُخْرج عن المِلَّة أبداً، وإنَّما الشّركْ المُحبط للعمل أو المُنْقِص للأجر، هذا هو الرِّياء، إما أن يحبطْ عملك، وإما أن يِنْقص أجركْ، وهذه داهية، فتتعبْ للأسف في غيرِ غاية.
يقول أبو حامد منْ أين يتولَّد الرِّياء، ولِم يصبح عنْد الإنْسان رياء؟ يقول: منْ تعظيم الخَلْق. ما معنى منْ تعظيم الخَلْق؟ منْ تعظيم المُرائي للخلق، فهو يرى النَّاس شيء كبير، وهو كثير الإهتمام بهم، أي أن هذا المرائي فِعْلاً مُهْتم بالنَّاس، مُهْتم جداً أنْ يمْدَحوه، مُهْتم جدا أنْ لا يذُمُّوه وأنْ يُمْسكوا عنْه، مُهْتم جدا أنْ يُعظِّموه ويُوَقِّروه، أنْ يُحْسِنوا ظنونهم فيه، لكنْ منْ نَّظَرَ إلى الله - تبارك وتعالى - والْتفتَ إليه لمْ يحْتَقِر الخلق، ولمْ يزْدَرِهِمْ، لكن لا يراهُمْ، وأنا شبَّهتْ هذا مرة بذرِّة حديد، ذرِّة بسيطة صغيرة، هذه الذَّرة لو وُضعت بإزاء أو بِقُرْب مِغْناطيس، ماذا يحْدُث لها؟ يجْذِبُها، لكن على قدر قوَّتِهِ وحجْمهِ، ربَّما تذْهب إليه وهي تَتَّعْتعْ، لكن تخيَّلوا أنَّ هذا المغناطيس بحجم صخرة كبيرة، وهي ذرَّة صغيرة، كيف يجْذبُها؟ يجْذِبها جَذْبة هائلة، وهذا سرْ حديث السَّادة الصُّوفيَّة عن الجذْبة، في اللحظة التي يُطالِعون فيها مجْد الله - تبارك وتعالى - ينْكشِفْ عنْهُمُ الحجاب، روحياً طبعاً وليس بصرياُ، تحلو الجّذْبَة, فِعْلاً يفْنى هذا السَّالك عن العالم بما فيه، يذْهب إلى ربِّهِ قصْداً قصْداً قصْداً، بلا تَلَفُّت، بلا تَعْتَعَة، لا يَهُمُّه شيء في العالمْ، هذا هو.
هذه الجّذبة، وذاك الرِّياء، فتخيَّلوا الفارق؟ فالرِّياء يتولَّد عنْ تعظيم الخَلْق لأن كل نظر المرائي للخَلْق، هذا قال عنِّي، هذا زِعِل، هذا رضي، هذا سخط، هذا يريد وهذا لا يريد. والسؤال ما علاقتك بالنَّاس؟ كلام فارغ. النَّاس بالذَّات، البشر، بنو آدم - والله العظيم - بنو آدم. الحمْدُ لله، الآن هذا، يعني، فُتِحَ عليَّ به الآن، أقول.. الحمْدُ لله أنَّ اللهَ حجب الملائكة عنَّا، الآن هذا فُتحَ عليَّ لأوَّل مرة في حياتي، يعني منْ أسرار أنَّ الله حجب الملائكة عنَّا - أيُّها الإخوة - لِألَّا نُضْطَّر إلى مُراءاتهم، لأنَّهم يسْتحِقُّون المراءاة، كائنات مُنزَّهة، طيِّبة، وقَطْعاً تفْرحْ جِدَّاً بِعَمَلِكَ الصَّالح، وتَدْعو لك وتستغفر - كما في سورة مؤمن وفي سورة حم وفي الشّوُرى -، فطبعاً لو كانوا بادين ظاهِرين لنا - سبحان الله - لما إستطاع الإنسان ومعظم الخلق أنْ يتحكم في مُعظم نواياهُم، فيُصبح يريد وجه الله ووجه هذا الملك الطيَب الجالس يدعو له، وفرح به، ومستبشر بعبادتِهِ، ولنْ يقْلب عليْك هذا الملك الطيِّب طالما أنت محسن هو دائماً يدعو لك ويستبْشِر، إلا البَشَرْ - أنا أقول لكم - البشر يوجد مِنْهُم وكثيراً من البشر منْ يحْسُدك على دينكْ، لو رآك أتقى لله والله يحسُدُك ويكْرَهُك، لأنَّك أتْقى لله، لمْ تبِعْ دينَكْ مثلاً، لمْ تُنَافقْ، ولمْ تكذب، وقفْت موقفاً مُشرِّفاً، يكْرَهُك لذلك، يقول لماذا أنا منافق وهذا غير منافق، يا ليْتَه نافَق، ويتَّهِمُكَ بالنِّفاق، يقول هذا منافِق، يدَّعي التَّقوى، وهو منافق، يَغَارُ لدينِك وليس على دنْياك، فدنْياك الكلْ يَغارُ منها إلا منْ رحم الله.
قلَّ أنْ يُفْتَح على أحد بشيء مِن الدُّنيا، ويفْرحَ لَه النَّاس، إذن أُناس هذا حالُهُمْ لماذا نُرائهم؟ والذي يرضى اليوم غداً يسخط، والذي يسخط اليوم ربما يظل ساخِطاً أو يرضى، إذن فهم لا يسْتَحقُّونَ أنْ يُراؤوا، وتام العقل لا يُرائي بعَمَله، فهو ينْظُر إلى النَّاس وإلى الدُّنيا نظْرة زواليَّة، ويعْلم أنَّ كل هذا زائلْ فاني، لا يسْتحِق، الدُّنيا لا تستحق أنْ تُطلب لذاتها، إنْ طُلِبَت لِوَجْه الله وللآخِرة فيا حيَّ هلاً، أمَّا إنْ تُطلب لذاتها فوالله العظيم لا تستحق لأنَها سريعة الزَّوال.