قرأت عن الرجل منذ عامين أو أقل..حينها كانت الساحة العلمية تشهد فراغاً قاتلاً بخفوت نجم الشيخ يوسف القرضاوي سواء لمرضه أو انشغاله بالطائفية والحزبية… بينما تفرغ الدكتور سليم العوا تماماً للسياسة ولم يعد قادراً على عقد ندوات علمية وشروحات ثقافية تمس جدار الجهل والتقليد الذي أصاب شباب الأمة.
إضافة إلى انشغال أغلب علماء ما يسمون بالتيار الوسطي في الأزهر والقيروان وكافة ربوع العالم العربي والإسلامي ..نراهم وقد انشغلوا بالربيع العربي وتحدياته وانتكاساته ، كان ولابد في هذه الحالة- وحسب نظرية الفراغ- أن يصعد نجم شيوخ الفضائيات وسيادة روح الإفتاء بغير علم والخوض في أعراض وشخوص الناس بمجرد الرأي، إذ وفي هذا الجو تفقد الحُجة بريقها ويضمحل الإبداع لصالح الحشد، وكلاهما تجليات لحالة ثقافية متعفنة تسود كافة بقاع العالم العربي في هذا الزمان.
الرجل لديه مَلَكة ذهنية تُمكنه من التشريح والتجريد بمهارة فائقة، إضافة إلى سعة حفظه بقوة ذاكرته وخياله الواسع، وهو متبحر في أغلب العلوم العقلية والأفكار التربوية ..مما يؤهله لأن يكون فيلسوفاً ابستمولوجياً رائعاً..ناهيك عن تبحر الرجل في علوم الشريعة الإسلامية المختلفة كالفقه والحديث والسيرة وعلوم اللغة”النحو والصرف والبلاغة” والتاريخ..ولا أنسى تخصص الرجل وإبداعه في علوم الفلسفة والمنطق والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم…حقيقة نحن أمام رجل غير طبيعي ويملك صفات تؤهله للاجتهاد المُطلق، ورغم ذلك أرى أنه لم يصل إليها بعد.. فأمامه المزيد من الوقت والجهد كي يصل لهذه المرتبة التي تُعد هي الأعلى في تصنيفات العلماء والباحثين.
جُل جهود الرجل تنصب في إخراج عمل ثقافي عن طريق نشر كافة خُطَب الجمعة له من كل أسبوع..علاوة على حلقاته ودروسه العلمية المتنوعة والتي يلقيها على تلاميذه عبر الندوات العامة والخاصة..والرجل يخطب ويؤم الناس في مسجد صغير بالعاصمة النمساوية فيينا..وحقيقةً فإن كافة خُطَبه- ما رأيناها وما لم نَراها –قد خلقت في أنفس الشباب المحبين له صورة جديدة عن الإمام وخطيب الجمعة إجمالاً…فالإمام والخطيب الذي يعمر في الأذهان –حتى اليوم-ذلك الرجل المعزول والذي يحفظ من القرآن والأحاديث أكثر مما يفهم أو أن تكون لديه المهارة لكسب ثقة الناس بشرح واقعهم والتعرض لمشكلاتهم الرئيسة.
وبالتالي أصبحت لدينا صورة إمام وخطيب غير مقنع ..بل جامدٌ على النص لا يتركه ولو وَلِج الجمل في سم الخياط..فليس من الغريب إذاً أن نري أكثرية الحضور في الخطبة نائمون أو منشغلون، حتى الذي يحاول متابعة الخطبة والتركيز في مضمونها فلا يفهم منها شيئاً كونه وفور خروجه من المسجد يرى واقعاً آخر وأناساً آخرون لا علاقة لهم جميعاً بما قاله الشيخ وصدّع به رأسه.. في المُجمل فإن هؤلاء من الأئمة والخطباء كانوا-ويظلون- سبباً في انحدار العقل المسلم لهاوية الجهل والتعصب وما حال الأمة هذه الأيام ببعيدة عن هذا التوصيف…
طريقة اكتساب العلوم والحض عليها وإرادة تحصيلها يخلق في النهاية رجلاً يميل للحق دون التعرض لحامله، فهو في النهاية باحثٌ عن الحكمة، وهؤلاء لا سبيل للتواصل معهم إلا سبيل الإقناع وإزالة كافة الشُبهات بكافة صنوف الحُجج العقلية منها والشرعية ، وهذه الفئة لا تركن لمشايخ التقليد كون ما حارت فيه عقولهم تبحث لها عن إجابات فيُصدمون أنهم أمام رجالاً حُفاظاً ونَقَلة لا صلة لهم بالعلم الشرعي إلا حدثنا الشيخ فلان وهو أعلم منا بشئون الدين..في النهاية سيظل الرجل يبحث عن الحق إلى أن يرزقه الله بعالمٍ يتجرد إلى الله بطلب الحق لا السمعة، يطلب العلم لا الخوف..فهناك علاقة جدلية بين العلم والخوف يشغل منها الأخير مقعد المؤثر على الحالة العلمية للبشر، فالعلم في مُجمله شجاعة وطلبه يعني طلباً للشجاعة، أما المتردد والذي يظن أنه يحافظ.. فهؤلاء قد تمكّن الخوف منهم وبلغ مبلغه بإسقاطهم في هاوية الجهل والترديد والتعصّب.
أتابع الرجل كثيراً ولسنا في معرض تقييمه بل هو رأي قابل للدحض، بل إن فكرة الحديث عن الأشخاص ستستهلك حتماً من جهود الناس عبر انشغالهم بالتوافه والتعصب لهم..لذلك أرى أن المتعصب للدكتور عدنان ابراهيم لا يقل سوءاً عن المتعصب للظواهري أو لبن لادن أو لشيوخ السلفية والتقليد إجمالاً..فالتعصب للشخص ينزع مهابة العلم من قلبه ويجعله يجنح نحو خلق صنماً له يدافع عنه بالحق والباطل دون أن يشعر..وأنا رغم ثنائي على الدكتور عدنان إلا أنني أخالف الرجل في مسائل عدة وأكثرها سياسية والقليل منها شرعية وعلمية..إلا أن هذا الخلاف لا يحملني على بخسه حقه كعالم متبحر استطاع وفي فترة ليست بالطويلة أن يُحدث انقلاباً في أروقة العلم المختلفة.
طبيعي أن يكون لرجل حر مجتهد بهذا الأسلوب وبتلك النتائج أن يكون له خصوم من قلب البيئة التي ينقدها ويعمل على إصلاحها أو هدمها، هذه الفئة التي تخاصمه بالتأكيد تعمل في نفس مضامير العلم التي ينقدها الشيخ ألا وهي مضامير..”الطائفية والتصنيف والحزبية والتقليد والعُزلة والتعصب” وغيرها من أمراض الأمة التي تجاوز عن علاجها المشايخ لصالح كسب بعض المزايا الدنيوية أو خوفاً على سمعتهم وهيبتهم أو تأثيراً لبريق السلطة في أنفسهم..والذي ينظر في التاريخ عموماً يجد ترادفات تلك الحالة تجتمع في أمة بعينها حين انحطاطها،ولكن فور تشخيص الداء والبدء في مراحل العلاج إلا يتبدى للناس ما هم عليه من أزمات متشابكة ومعقدة فيسلكون طريق النهوض بحِرفية ومهارة تُمكنهم من البقاء وتواصل الإبداع في التغيير.
أخيراً أرى أن الرجل بحق هو حالة خاصة تجمع بين العلم والفهم والشجاعة، وهذه أصول إنسانية لابد لأي مجتمع ناهض أن يُشجّع على بروز مثل هذه الظواهر بل ويعمل على تنميتها، وأتمنى أن يحظى الدكتور عدنان ابراهيم باهتمام وشهرة أكبر مما هي عليها الآن..فحقيقة أن التيار التكفيري الجامد يستخدم ضد الرجل كافة إمكانياته المالية والإعلامية لتشويه الرجل وإسقاطه، في المقابل لابد وأن يكون مع هؤلاء وبالتوازي فئة أخرى تعمل على نشر علومه دون إخلال بالمضمون، وليس بالضرورة أن تمدح الرجل فنحن ننشد مجتمعاً مؤهلاً ناهضاً ولا قداسة لبشر ولا أحد فوق العلم.
سامح عسكر مفكر وكاتب المصري