الرجة التي أحدثها ويحدثها المفكر الفلسطيني عدنان ابراهيم في مياه الفكر السلفي الآسنة منذ نحو عقد من الزمن تـُذكـّر الى حد بعيد بالهزة التي احدثها المفكر الايراني الكبير علي شريعتي في تراكمات الفكر الشيعي الامامي قبل اكثر من نصف قرن . ولا شك ان الفارق في التاثير والانتشار هنا واضح لذي عينين ، فشريعتي الذي ظلمه زمانه كان ينشر افكاره التجديدية من خلال منبر حسينية ارشاد في وسط طهران ، يحضرها من يحضر، ويغيب عنها من يغيب مع وجود تاليب دنىء آنذاك على مقاطعته او رشقه بالبيض والتهم بتبني الوهابية والبهائية في آن.
وكان من بين انصاره الذين يتبنون افكاره التنويرية من ينبري الى قضاء ساعات متواصلة في نشر افكار الدكتور المغضوب عليه من المؤسسات الدينية في ايران “الحوزات” ، من خلال تحرير وطبع وتوزيع منشورات بطريقة بدائية بمقاييس اليوم تعكس ملخصات لاخر خطبه المثيرة للجدل في الوسط الشيعي ، وكان حينها كهنة المذهب الوهابي يتبادلون التهاني في هذا الخرق الكبير. اما كتب الدكتور التي اصبحت في متناولنا لاحقا، وبطبعات متعددة ، فقد مرت بسلسلة من المخاضات والمغامرات حتى تترجم وتطبع وتصل الى ايدينا.
حينها كنتَ ستحتاج الى اسابيع ان لم تكن اشهر كي تطلع ولو لماما على اخر محاضرات الدكتور شريعتي ، وتتضاعف هذه الاسابيع والاشهر كلما ابتعدت عن العاصمة والمدن الدينية الكبرى كقم ومشهد واصفهان . رغم كل هذا التعتيم المديد والمرير الذي فرض على المفكر علي شريعتي فان اراءه في الاسلام عموما والتشيع خصوصا، بالكاد تجد شيعيا اليوم غير مطلع على افكاره في العموم ، فالماء المتحدر من علٍ لا بد ان يجد له منفذا آجلا ام عاجلا ، لا يسد عليه طريقه اللاحب مسد، وما ممارسات التعتيم الاعمى على الفكر الا مجرد اجراءات وقتية قد تؤجل وصوله الى مقصده حينا ، لكنها لا تستطيع ان توقفه اطلاقا وهذا ناموس الحياة ، ولنا في حصار شعب ابي طالب اسوة حسنة ، يوم كان الاسلام بضعة انفار، فاذا به مليار ونصف المليار عددا ، اقول عددا متقصدا لاني استثني الملايين التي تدعي تبني الاسلام معتقدا لكنها اعتى عليه من الد اعدائه المتربصين.
ونمط هؤلاء موجود في كل ملة ونحلة وفي كل زمان ومكان ليميز بهم الله الخبيث من الطيب ، وما اكثر الخبيث اليوم واقل الطيب . ولكي نطلع على الفارق الذي احدثته التقنيات الحديثة على طرق ايصال الافكار بين زمنين يكفي ان نلقي نظرة خاطفة على عدد مشاهدي موقع “يوتيوب” الشهير للمحاضرة التي القاها قبل اقل من نصف يوم المفكر الفلسطيني عدنان ابراهيم تحت عنوان “شبهات وبينات” للرد على عصبة من مشايخ السلفية في الكويت وغيرها من الذين لم يدعوا تهمة من تهمهم الجاهزة وبضاعتهم البائرة الا والصقوها به قبل بضعة اسابيع.
مع تحرير هذه السطور المتواضعة بلغ عدد المشاهدين نحو ثلاثة آلاف ، واذا ما اخذنا بنظر الاعتبار كون محاضرة الدكتور ابراهيم نزلت على النت في وقت متاخر من مساء الاحد وهو الوقت الذي يوشك المشرق العربي والاسلامي ان يغط كدأبه او غط فعلا في سباته العميق ، فاننا سنعرف من خلال ذلك مدى تعطش الانسان العربي المسلم للفكر المحمدي الاصيل الذي فرضت عليه طوابير اللحى الكثة المسكونة بالاثم والتاثيم تعتيما صارما مدى قرون راحوا يتوارثون فعله صاغرا عن صاغر . لا ازعم ان جميع من تابعوا محاضرة الشيخ عدنان الاخيرة هم جميعهم من انصاره ، لانني افترض مقدما ان الكثير منهم ايضا من اعداء فكره المتصيدين الذين يبحثون عن زلة هنا وهفوة هناك وهيهات لهم ذلك ، فضلا عن عدد آخر لا يستهان به من المذبذبين الذين هم لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء اختاروا المنطقة الوسطى ما بين الجنة والنار بانتظار ان تضع الحرب اوزارها واعلان نتائجها على الملأ.
من تابع الـ “شبهات” التي اثارها مشايخ كويتيون تكاد من نمط لباسهم ان تطلع على افكارهم المتحفية البائدة ، وتابع بعد ذلك “بينات” الدكتور عدنان بتجرد كامل، سيجد ببساطة متناهية الفارق الفاحش بين لغتين ، لغة تكفيرية تفسيقية اعتبرُها مجلبة للعار والشنار على الاسلام والمسلمين معا، واخرى حضارية تنويرية تعكس وجها للاسلام يتمنى كل مخلص لهذا الدين المختطف ان يلقى الله به يوم القيامة.
وقد ذُهلت – ولعل معي الكثيرون – للصبر الجميل الذي تحلى به الشيخ عدنان وهو يرد الشبهات الفارغات التي اثارها عليه مشايخ هذا الزمن الرخو بالحجة البالغة والدليل الدامغ . وكل من تابع رده يشهد انه لم يفقد زمام السيطرة على اعصابه الا عندما تطرق الى موضوع المقارنة بين سيدتنا فاطمة الزهراء بضعة الرسول عليهما افضل الصلاة والسلام ، وام المؤمنين عائشة بنت ابي بكر.
ولا اضيف شيئا من عندياتي عندما اقول ان ما ذكره الشيخ عدنان بشيء من الانفعال حد احمرار العيون هو احاديث متفق عليها باجماع المسلمين عن فضل مولاتنا الزهراء فاطمة عليها السلام ، فحسبها انها ” سيدة نساء العالمين ” و ” فاطمة بضعة مني ” ، ومن شاهد المحاضرة او من سيشاهدها لاحقا سيجد بعينه المجردة المتجردة من اي غرض او مرض – العياذ بالله منهما – الحالة الخاصة التي انتابت الشيخ عدنان وهو يرد على من ياخذ عليه تغليبه حب فاطمة واهل بيت النبي على حب اي احد آخر ، مع احتفاظه بالاجلال والاحترام الكبيرين لهذا الاخر خاصة اذا كان الامر يخص امهات المؤمنين.
حقا، ان هذا المفكر الاسلامي يخوض حربا طاحنة امام جيش جرار من الدشاديش المقصرة مسلح بكل ادوات الخسة والضعة لمواجهة خصمه وهو يتحصن في الكهوف، وهذا الجيش لا يتردد في استخدام اي من اسلحته الفتاكة في هذه المواجهة المريرة بين فكرين، فكر يريد ان يقدم الاسلام المحمدي الاصيل بكل حضارته للقرن الحادي والعشرين ، وفكر ظلامي يصر على تقديم رؤى المنافقَين النافقين معاوية وابنه يزيد للاسلام ، وبمنطق القرون الوسطى التي اكل الدهر عليها وشرب.
الرجل قدّم حتى الان نحو ثلاثين حلقة مخصصة للبرهنة على ضلال ابن ابي سفيان وكشفِ سلسلة جرائمه التي تكبد اضرارها الفادحة المسلمون وحدهم دون غيرهم ، ثلاثون حلقة كل حلقة تستغرق ساعة على الاقل ، مشحونة باصدق الاحاديث ، دفاقة باوثق الروايات التي هي برمتها مقتبسة من كتب الصحاح ومصادر اهل السنة والجماعة . الا تكفي كل هذه البينات الناصعات الانسان الذي يريد وجه الله خالصا مخلصا لان يركن للحق ويذعن للحقيقة ؟ اكاد اجزم ان هؤلاء الذين يعيشون في كهوف التاريخ الرطبة لو ان محمدا “صلى الله عليه واله وسلم” بعث في عصرنا هذا من جديد واطلعهم على حقيقة الضال المضل معاوية واحفاده الذين ساروا على نهجه من بعده كعدو اهل البيت صدام التكريتي ، لاتهموه بالجنون والسحر – وحاشاه – كما اتهمه بالامس اجدادهم اسياد الجزيرة.
ترى ما الذي يدفع هذه العصبة الاحفورية المتحجرة الى الدفاع المستميت عن شخص ناصب العداء الدموي المقيت لامام تحدث الرسول عن جهاده وبطولاته وعلمه وعظمته وتواضعه ورفعته وشجاعته وسابقته وقضائه وحقه واحقيته وعدالته وشهامته وزهده وايمانه وسيفه وآله ما لم يتحدث بنزر قليل منه عن اقرب صحابته اليه ؟ ما سر هذا الاصرار العجيب المريب على الخطأ والخطيئة ومواصلة العزة بالاثم ؟ وهل الحياة الا موقفا يتخذه الانسان الحر بعيدا عن اي ضغط خارجي موبوء ليقابل به رب العزة يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم ؟ من شاء ان يتحصل على الرد الشافي على هذه الاسئلة ، فلينظرن الى تراث الناصبي المجاهر بالنصب لأل البيت ، الملقب اِفكاً وعدوانا شيخ الاسلام ، الذي وجه طعنة نجلاء لجسد الاسلام ، نحتاج بعدها الى العشرات من امثال الدكتور عدنان ابراهيم لغسل تراثنا من درنه المشؤوم.
بقلم الأستاذ حميد آل جوبير